المسألة الثالثة : ذكر في نفي الشاعرية ﴿قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ﴾ وفي نفي الكاهنية ﴿مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ والسبب فيه كأنه تعالى قال : ليس هذا القرآن قولاً من رجل شاعر، لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون، أي لا تقصدون الإيمان، فلذلك تعرضون عن التدبر، ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم : إنه شاعر، لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر، ولا / أيضاً بقول كاهن، لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين، إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فلهذا السبب تقولون : إنه من باب الكهانة.
[بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٤
٦٣٥
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء :﴿وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤) فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله، وهو قول جبريل لأنه نزل به، وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به، فههنا أيضاً لما قال فيما تقدم :﴿إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (الحاقة : ٤٠) أتبعه بقوله :﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حتى يزول الإشكال، وقرأ أبو السمال : تنزيلاً، أي نزل تنزيلاً.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٥
٦٣٥
قرىء :﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ﴾ على البناء للمفعول، التقول افتعال القول، لأن فيه تكلفاً من المفتعل، وسمي الأقوال المنقولة أقاويل تحقيراً لها، كقولك الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول، والمعنى ولو نسب إلينا قولاً لم نقله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٥
٦٣٥
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجوه الأول : معناه لأخذنا بيده، ثم لضربنا رقبته، وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم، فإنهم لا يمهلونه، بل يضربون رقبته في الحال، وإنما خص اليمين بالذكر، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف، وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، ومعناه : لأخذنا بيمينه، كماأن قوله :﴿لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن الحسن البصري القول الثاني : أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج، وأنشدوا قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة، قال ابن قتيبة : وإنما قام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه والقول الثالث : قال مقاتل :﴿لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ (الصافات : ٢٨) يعني انتقمنا منه بالحق، واليمين على هذا القول بمعنى الحق، كقوله تعالى :﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ أي من قبل الحق.
اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك. إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه، وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه، فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدماً لكلامه، وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب.
المسألة الثانية : الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان قال أبو زيد : وجمعه الوتن و(يقال) ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه، قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه، ونظيره قوله علي السلام :"ما زالت أكله خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع ابهرى" والأبهر عرق يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوأن يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره. ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٥
٦٣٦
قال مقاتل والكلبي معناه ليس منكم أحد يحجزنا عن ذلك الفعل، قال الفراء والزجاج : إنما قال حاجزين في صفة أحد لأن أحداً هنا في معنى الجمع، لأنه اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى :﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه ﴾ (البقرة : ٢٨٥) وقوله :﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ ﴾ (الأحزاب : ٣٢) واعلم أن الخطاب في قوله :﴿فَمَا مِنكُم﴾ للناس.
واعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن تنزيل من الله الحق بواسطة جبريل على محمد الذي من صفته أنه ليس بشاعر ولا كاهن، بين بعد ذلك أن القرآن ما هو ؟
فقال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٦
٦٣٦
وقد بينا في أول سورة البقرة (٢) في قوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ ما فيه من البحث. ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٦
٦٣٦
له بسبب حب الدنيا، فكأنه تعالى قال : أما من اتقى حب الدنيا فهو يتذكر بهذا القرآن وينتفع. وأما من مال إليها فإنه يكذب بهذا القرآن ولا يقربه.
وأقول : للمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله، وذلك لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين، ولم يقل : بأنه إضلال للمكذبين، بل ذلك الضلال نسبه إليهم، فقال : وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، ونظيره قوله في سورة النحل :﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا﴾ (النحل :) واعلم أن الجواب عنه ما تقدم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٦
٦٣٧
الضمير في قوله :﴿إِلَىَّ أَنَّهُ﴾ إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان : الأول : أنه عائد إلى القرآن، فكأنه قيل : وإن القرآن لحسرة على الكافرين. إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني : قال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم، ودل عليه قوله :﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ﴾ (الحاقة : ٤٩).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٧
٦٣٧
معناه أنه حق يقين، أي حق لا بطلان فيه، ويقين لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد. ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٧
٦٣٨
إما شكراً على ما جعلك أهلاً لإيحائه إليك، وإما تنزيهاً له عن الرضا بأن ينسب إليه الكاذب من الوحي ما هو بريء عنه. وأما تفسير قوله :﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فمذكور في أول سورة :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾ وفي تفسير قوله :﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ﴾ والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٨
٦٤٠


الصفحة التالية
Icon