القول الثاني : أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى، وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضراً والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة، وتكون الحاسة سليمة، ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعاً عقلاً ؟
أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه، وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلاً، والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية، أما العقلية فأمران : الأول : أنا نرى الكبير من البعد صغيراً وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجباً الثاني : أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة، فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء، فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر أو لا تكون، فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضاً رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة، ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى، فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجباً بل جائزاً، وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم : فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة، والجبال ياقوتاً وزبرجداً، أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر، ثم كما فتحت العين أعدمها الله عجزوا عن الفرق، والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات، فوهموا أن بعضها واجبة، وبعضها غير واجبة، ولم يجدوا قانوناً مستقيماً، ومأخذاً سليماً في الفرق بين البابين، فتشوش الأمر عليهم، بل الواجب أن يسوى بين الكل، فيحكم على الكل بالوجوب، كما هو قول الفلاسفة، أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري. فأما التحكم في الفرق فهو بعيد، إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن، فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها، وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه، وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم/ وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة، والجن أيضاً كذلك، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة، / فإذاً يجب في الملك والجن أن يكون كذلك، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبداً، وهم الكرام الكاتبون والحفظة، ويحضرون أيضاً عند قبض الأرواح، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلّم، وأن أحداً من القوم ما كان يراهم، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحداً، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم، وإن كانوا موصفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم : إن البنية شرط الحياة، وإن قالوا : إنها أجسام لطيفة وحية، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة، فهذا إنكار لصريح القرآن، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلاً عن حجة مبينة، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات، وبالله التوفيق.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٦٧
المسألة الثانية : اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا ؟


الصفحة التالية
Icon