المسألة الرابعة : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم : الوحي الوحي والقراءة المشهورة، ﴿أُوحِىَ﴾ بالألف، وفي رواية يونس / وهرون، عن أبي عمرو ﴿وَحْىٌ﴾ بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال : وحي إليه وأوحى إليه وقرىء بالهمز من غير واو، وأصله وحي، فقلبت الواو همزة كما يقال : أعد وأزن ﴿نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ (المرسلات : ١١) وقوله تعالى :﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن قوله :﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل ﴿أُوحِىَ﴾ فهو كقوله :﴿وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـاذَا الْقُرْءَانُ﴾ (الأنعام : ١٩) وأجمعوا على كسر إنا في قوله :﴿إِنَّا سَمِعْنَا﴾ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم ههنا قراءتان إحداهما : أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله :﴿وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ﴾ (الجن : ١٨) ﴿وَأَنَّه لَمَّا قَامَ﴾ (الجن : ١٩)، وثانيهما : فتح الكل والتقدير : فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي، فإن قيل : ههنا إشكال من وجهين أحدهما : أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال : وآمنا بأنه كان يقول : سفيهنا على الله شططاً والثاني : وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال : آمنا به وزيد، بل يقال : آمنا به وبزيد والجواب : عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله : آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٦٧
المسألة الثانية :﴿نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهوداً، وذكر الحسن أن فيهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء :
النوع الأول : مما حكوه قوله تعالى :﴿قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَـاَامَنَّا بِه ا وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا﴾ أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله :﴿فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ (الأحقاف : ٢٩)، ﴿قُلْ أُوحِىَ﴾ أي خارجاً عن حد أشكاله ونظائره، و(عجباً) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب، ﴿يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ﴾ أي إلى الصواب، وقيل : إلى التوحيد ﴿يَهْدِى إِلَى﴾ أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد ﴿وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا﴾ أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين.
النوع الثاني : مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد. فقالوا :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٦٧
٦٦٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الجد قولان : الأول : الجد في اللغة العظمة يقال : جد فلان أي عظم / ومنه الحديث :"كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا" أي جد قدره وعظم، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص.
القول الثاني : الجد الغنى ومنه الحديث :"لا ينفع ذا الجد منك الجد" قال أبو عبيدة : أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وكذلك الحديث الآخر :"قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون" يعني أصحاب الغنى في الدنيا، فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد.
وعندي فيه قول ثالث : وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازاً عن الأصل، فقوله :﴿تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد.
المسألة الثانية : قرىء ﴿يَقُولُ رَبَّنَآ﴾ بالنصب على التمييز و﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾ بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولاً عن الشرك وثانياً عن دين النصارى.
النوع الثالث : مما ذكره الجن قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٦٧
٦٦٨
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه.


الصفحة التالية
Icon