اعلم أن عبدالله هو النبي صلى الله عليه وسلّم في قول الجميع، ثم قال الواحدي : إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله :﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـن ِ وَفْدًا﴾ والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن. وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها، ونحن نفسر الآية على القولين، أما على قول من قال : إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله :﴿كَادُوا ﴾ إلى من يعود ؟
فيه ثلاثة أوجه أحدها : إلى الجن، ومعنى ﴿عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن، فاستمعوا القراءة ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً، وساجداً وإعجاباً بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا مالم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني : لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الأوثان، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث : وهو قول قتادة : لما قام عبدالله تلبدت / الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه، وأما على قول من قال : إنه من كلام الجن، فالوجهان أيضاً عائدان فيه، وقوله :﴿لِبَدًا﴾ فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال : لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه، ومنه قول زهير :
(لدى أسد شاكي السلاح مقذف)
له لبد أظفاره لم تقلم
وقرىء :﴿لِبَدًا﴾ بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة، وقرىء ﴿لِبَدًا﴾ جمع لابد كسُجِّد وساجد. وقرىء أيضاً :﴿لِبَدًا﴾ بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور، فإن قيل : لم سمي محمداً بعبدالله، وما ذكره برسول الله أو نبي الله ؟
قلنا : لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبدالله لما اشتغل بعبودية الله، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل ؟
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٧٥
٦٧٥
قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة، ﴿قُلْ﴾ حتى يكون نظيراً لما بعده، وهو قوله :﴿قُلْ إِنِّى لا أَمْلِكُ﴾ (الجن : ٢١) ﴿قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى﴾ (الجن : ٢٢) قال مقاتل : إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم :"إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا" فأنزل الله :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا رَبِّى﴾ وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ ﴿قَالَ﴾ حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله :﴿إِنَّمَآ أَدْعُوا رَبِّى﴾ فحكى الله ذلك عنه بقوله ﴿قَالَ﴾ أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٧٥
٦٧٧
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام : لا أملك لكم غياً ولا رشداً، ويدل عليه قراءة أبي (غياً ولا رشداً)، ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو الله، وإن أحداً من الخلق لا قدرة له عليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٧٧
٦٧٧
قوله تعالى :﴿قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ قال مقاتل : إنهم قالوا : اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك، فقال الله له :﴿قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا﴾ أي ملجأ وحرزاً، قال المبرد :﴿مُلْتَحَدًا﴾ مثل قولك منعرجاً، والتحد معناه في اللغة مال، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٧٧
٦٧٨


الصفحة التالية
Icon