اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول : أن المراد بقوله :﴿إِلا قَلِيلا﴾ الثلث، والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه ﴾ (المزمل : ٢٠) فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان/ فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله :﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا﴾ هو الثلث، فإذاً قوله :﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا﴾ معناه قم ثلثي الليل ثم قال :﴿نِّصْفَه ﴾ والمعنى أو قم نصفه، كما تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت، فتحذف واو العطف فتقدير الآية : قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، ويكون الثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه يكون مندوباً، فإن قيل : فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم قد ترك الواجب، لأنه تعالى قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه ﴾ فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب، قلنا : إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد، فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله، ولذلك قال تعالى لهم :﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ (
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٨٦
المزمل : ٢٠)، الوجه الثاني : أن يكون قوله :﴿نِّصْفَه ﴾ تفسيراً لقوله :﴿قَلِيلا﴾ وهذا التفسير جائز لوجهين الأول : أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني : أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه، وإذا ثبت هذا فنقول :﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا﴾ معناه قم الليل إلا نصفه، فيكون الحاصل : قم نصف الليل، ثم قال :﴿أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا﴾ يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع، ثم قال :﴿أَوْ زِدْا عَلَيْهِ﴾ يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه، وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف، وبين أن يقوم ربع الليل، وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه، وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع، والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل، وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه ﴾ (المزمل : ٢٠) يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات، فزال السؤال المذكور، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا﴾ قال الزجاج : رتل القرآن ترتيلاً، بينه تبييناً، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، قال المبرد : أصله من قولهم : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث : الترتيل تنسيق الشيء، وثغر رتل، حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا تملهت فيه وأحسنت تأليفه، وقوله تعالى :﴿تَرْتِيلا﴾ تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارىء.
واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية/ ومن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومن أحب شيئاً لم يمر عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٨٦
٦٨٦


الصفحة التالية
Icon