المسألة الثانية : قرأ أنس (وأصوب قيلا)، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي :﴿وَأَقْوَمُ قِيلا﴾ فقال أنس :(إن أقوم) وأصوب وأهيأ واحد، قال ابن جني، وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني، فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ :(فحاسوا خلال الديار) بالحاء غير المعجمة، فقيل له : إنما هو جاسوا، فقال : حاسوا وجاسوا واحدو أنا / أقول : يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيراً للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن، ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقاً لذلك المعنى، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد، وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن، فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٨٧
٦٨٨
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال المبرد : سبحاً أي تقلباً فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحاً لتقلبه بيديه ورجليه، ثم في كيفية المعنى وجهان الأول : إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل، فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني : قال الزجاج : أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه.
المسألة الثانية : قرىء بالخاء المنقطة من فوق، وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه، فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل، وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة، واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولاً بقيام الليل، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار، ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٨٨
٦٨٩
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما : الذكر، والثاني : التبتل، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال :﴿كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ ههنا وقال في آية أخرى :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ (الأعراف : ٢٠٥) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ وإنما تكون مشتغلاً بذكر الرب، إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلاً بذكر إلهيته، وإليه الإشارة بقوله :﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ﴾ (البقرة : ٢٠٠) وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية، لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام متردداً في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية، التي كلت العبارات عن شرحها، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة، ولا تكون الهوية مركبة حتى / ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره، وأما قوله تعالى :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ ففيه مسألتان :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٨٩