المسألة الأولى : اعلم أن قوله :﴿عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ يدل على أنه كان عارفاً في قلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلّم إلا أنه كان يكفر به عناداً، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاماً عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقداً صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني : ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله :﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ (فصلت : ١٣) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة، ولما رجع الوليد قال لهم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش : صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزوناً فقال مالك : يا ابن الأخ ؟
فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالاً ليكون ذلك عوضاً مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد، فقال : والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالاً، ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئاً يليق به إلا أنه ساحر، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معانداً لأن السحر يتعلق بالجن والثالث : أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله، والأفعال المنكرة، وكان من الظاهر أن محمداً لا يدعو إلا إلى الله، فكيف يليق به السحر ؟
فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما ﴿عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان.
المسألة الثانية : قال الليث : عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل : بسر، فإن غضب مع ذلك قيل : بسل.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٧
٧٠٧
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال :﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، وفي قوله :﴿يُؤْثَرُ﴾ وجهان الأول : أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثراً إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى / الرواية عمن كان والثاني : يؤثر على جميع السحر، وعلى هذا يكون هو من الإيثار.
ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٧
٧٠٨
والمعنى أن هذا قول البشر، ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره، ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عناداً منه، لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم (حم السجدة) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال : سمعت من محمد كلاماً ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه، فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر، إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد.
ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٨
٧٠٨
قال ابن عباس :﴿سَقَرَ﴾ اسم للطبقة السادسة من جهنم، ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث.
ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٨
٧٠٨
الغرض التهويل.
ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٨
٧٠٩
واختلفوا فمنهم من قال : هما لفظان مترادفان معناهما واحد، والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال : صد عني وأعرض عني. ومنهم من قال : لا بد من الفرق، ثم ذكروا وجوهاً أحدها : أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبداً، وهذا رواية عطاء عن ابن عباس وثانيها : لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلا أحرقته وثالثها : لا تبقي من أبدان المعذبين شيئاً، ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئاً إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم.
ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٩
٧١٣
وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon