المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار ؟
فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة : أولها :﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ وثانيها : لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب، لا يجوز أن يعذبوا على تركه وثالثها :﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآا ِضِينَ﴾ والمراد منه الأباطيل ورابعها :﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين، أي الموت قال تعالى :﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر : ٩٩) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفاً بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه، فإن قيل : لم أخر التكذيب، وهو أفحش تلك الخصال الأربعة، قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب، كقوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (البلد : ١٧).
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٦
٧١٧
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية، وقالوا : إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٧
٧١٧
أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائماً.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٧
٧١٧
قال ابن عباس : يريد الحمر الوحشية، ومستنفرة أي نافرة. يقال : نفر واستنفر مثل سخر، واستسخر، وعجب واستعجب، وقرىء بالفتح، وهي المنفرة المحمولة على النفار، قال أبو علي الفارسي : الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال :﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ﴾ وهذا يدل على أنها هي استنفرت، ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام. قال : سألت أبا سوار الغنوي، وكان أعرابياً فصيحاً، فقلت : كأنهم حمر ماذا ؟
فقال : مستنفرة طردها قسورة، قلت : إنما هو فرت من قسورة، قال أفرت ؟
قلت : نعم، قال فمستنفرة إذا.
ثم قال تعالى :﴿فَرَّتْ﴾ يعني الحمر ﴿مِن قَسْوَرَة ﴾.
وذكروا في القسورة وجوهاً أحدها : أنها الأسد يقال : ليوث قساور، وهي فعولة من القسر وهو القهر، والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمداً صلى الله عليه وسلّم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد، ثم قال ابن عباس : القسورة، هي الأسد بلسان الحبشة، وخالف عكرمة فقال : الأسد بلسان الحبشة، عنبسة وثانيها : القسورة، جماعة الرماة الذين يتصيدونها، قال الأزهري : هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها : القسورة : ركز الناس وأصواتهم ورابعها : أنها ظلمة الليل. قال صاحب "الكشاف" : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٧
٧١٧
أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك، ونظيره ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُه ﴾ (الأسراء : ٩٣) وقال :﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقيل : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار، وقيل : كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل، إلا أن يراد بالصحف المنشرة، الكتابات الظاهرة المكشوفة، وقرأ سعيد بن جبير ﴿صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾ بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد، كأنزله ونزله.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٧
٧١٩
﴿كَلا﴾ وهو ردع لهم عن تلك الإرادة، وزجر عن اقتراح الآيات.
ثم قال تعالى :﴿بَل لا يَخَافُونَ الاخِرَةَ﴾ فلذلك أعرضوا عن التأمل، فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة، كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٩
٧١٩
ثم قال تعالى :﴿كَلا﴾ وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه تَذْكِرَةٌ﴾ يعني تذكرة بليغة كافية ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَه ﴾ أي جعله نصب عينه، فإن نفع ذلك راجع إليه، والضمير في ﴿إِنَّه ﴾ للتذكرة في قوله :﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ (المدثر : ٤٩) وإنما ذكر(ت) لأنها في معنى الذكر أو القرآن.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٩
٧٢١
﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾.
قالت المعتزلة : يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب : أنه تعالى نفى الذكر مطلقاً، واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر، وقرىء يذكرون بالياء والتاء مخففاً ومشدداً.
ثم قال تعالى :﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا، والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٢١
٧٢٢