اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة. أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما : بيان أن ظاهره لا يدل على رؤية الله تعالى والثاني : بيان التأويل.
أما المقام الأول : فقالوا : النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية، بل لمقدمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لرؤيته، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة، وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع، فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة، والإصغاء مقدمة للسماع، فكذا نظر العين مقدمة للرؤية، قالوا : والذي يدل على أن النظر ليس اسماً للرؤية وجوه الأول : قوله تعالى :﴿وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف : ١٩٨) أثبت النظر حال عدم الرؤية، فدل على أن النظر غير الرؤية والثاني : أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية، يقال : نظر إليه نظراً شرزاً، ونظر غضبان، ونظر راض، وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال، ولا توصف الرؤية بشيءمن ذلك، فلا يقال : رآه شزراً، ورآه رؤية غضبان، أو رؤية راض الثالث : يقال : انظر إليه حتى تراه، ونظرت إليه فرأيته، وهذا يفيد كون الرؤية / غاية للنظر، وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية الرابع : يقال : دور فلان متناظرة، أي متقابلة، فمسمى النظر حاصل ههنا، ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس : قوله الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف إلى مع أن الرؤية ما كانت حاصلة السادس : احتج أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية، التي هي إدراك البصر، بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته، لقول الشاعر :
فيامي هل يجزي بكائي بمثله
مراراً وأنفاسي إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذي
به أنت من بين الجوانب ناظراً
قال : فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه، لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب، فإن ذلك من أعظم مطالبه، قال : ويدل على ذلك أيضاً قول الآخر :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٤
ونظرة ذي شجن وامق
إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب، فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية السابع : أن قوله :﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله :﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ (القيامة : ١٢) إلى ربك يومئذ المساق} (القيامة : ٣٠) (القيامة : ٣٠) ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ﴾ (الشورى : ٥٣) ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة : ٨) ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ (آ ل عمران : ٢٨) ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى : ١٠) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد في موقف القيامة، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس : ٦٢) فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله، ودل العقل على أنهم يرون غير الله، علمنا أن المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية الثامن : قال تعالى :﴿وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ (آل عمران : ٧٧) ولو قال : لا يراهم كفي، فلما نفى النظر، ولم ينف الرؤية دل على المغايرة، فثبت بهذه الوجوه، أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية.
المقام الثاني : في بيان التأويل المفصل، وهو من وجهين الأول : أن يكون الناظر بمعنى المنتظر، أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله، وهو كقول القائل، إنما أنظر إلى فلان في حاجتي والمراد أنتظر نجاحها من جهته، وقال تعالى :﴿فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ (النمل : ٣٥) وقال :﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ (البقرة : ٢٨٠) لا يقال : النظر المقرون بحرف إلى غير مستعمل في معنى الانتظار، ولأن الانتظار غم وألم، وهو لا يليق بأهل السعادة يوم القيامة، لأنا نقول : الجواب : عن الأول من وجهين الأول : النظر المقرون بحرف إلى قد يستعمل بمعنى الانتظار، والتوقع والدليل عليه أنه يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، والمراد منه التوقع والرجاء، وقال الشاعر :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٤
وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعما


الصفحة التالية
Icon