المسألة الثانية :﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ﴾ أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم، وهو كقوله :﴿عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام، فإنا قادرون على إفنائهم، وعلى إيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاَاخَرِينَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَالِكَ قَدِيرًا﴾ (النساء : ١٣٣) وقال :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ (إبراهيم : ١٩، ٢٠) ثم قيل : بدلنا أمثالهم أي في الخلقة، وإن كانوا أضدادهم في العمل، وقيل : أمثالهم في الكفر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٤
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف في قوله :﴿وَإِذَا شِئْنَا﴾ إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله :﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ (محمد : ٣٨) ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ (النساء : ١٣٣) واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع، تقول : آتيك إذا طلعت الشمس، فههنا لما كان الله تعالى عالماً بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة، لا جرم حسن استعمال حرف إذا.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٤
٧٦٤
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده :﴿إِنَّ هَاذِه تَذْكِرَةٌا فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا * وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ والمعنى أن هذه السورة بما فيها من / الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلاً. واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى :﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا﴾ ويقول : إنه صريح مذهبي ونظيره :﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ والجبري يقول : متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر، وذلك لأن قوله :﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا﴾ يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك :﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم، فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله :﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم.
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف، قال القاضي : المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله، ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به، فلا بد وأن يكون قد شاءه. وهذا لا يقتضي أن يقال العبد : لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق، إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه.
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه، وأيضاً فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية، وذلك ضعيف، لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به. لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور، بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب، وهو أن يقال : ما محل أن يشاء الله ؟
وجوابه النصب على الظرف، وأصله إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود :"إلا ما شاء الله" لأن ما مع الفعل كأن معه، وقرىء أيضاً يشاءون بالياء.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٤
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي عليماً بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم.
ثم ختم السورة فقال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٤
٧٦٨
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة، وذلك لأن قوله :﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ (الإنسان : ٣٠) يدل على أن جميع / ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله، وقوله :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه ا وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا ﴾ يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله، فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله، وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه ﴾ إن فسرنا الرحمة الإيمان، فالآية صريحة في أن الإيمان من الله، وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحصانه لا بسبب الاستحقاق، وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله، والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلاً وعدمه ممتنع عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة، وأيضاً فلأن من كان مديوناً من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال : بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا ﴾ يدل على أنه جف القلم بما هو كائن، لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به، وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ، ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال، فكان الأمر على ما بيناه وقلناه.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : نصب الظالمين لأن قبله منصوباً، والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله :﴿أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا ﴾ كالتفسير لذلك المضمر، وقرأ عبدالله بن الزبير : والظالمون، وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على يدخل من يشاء وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن، وأما قوله في حم عسق :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه ا وَالظَّالِمُونَ﴾ فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى، فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله، فارتفع بالابتداء، وههنا قوله :﴿أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا ﴾ يدل على ذلك الناصب المضمر، فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٨
٧٦٨