القول الثالث : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله :﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وقوله :﴿عُرْفًا﴾ أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات ﴿فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا﴾ فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول، ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان، فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها، وجعلتها باطلة دائرة، وقوله :﴿وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً، وقوله :﴿فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا﴾ فذلك ظاهر، لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل، ولذلك سمي الله تعالى القرآن فرقاناً، وقوله :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ فالأمر فيه ظاهر، لأن القرآن ذكر، كما قال تعالى :﴿ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ﴾ (ص : ١) ﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ (الزخرف : ٤٤) ﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾، (الأنبياء : ٥٠) وتذكرة كما قال :﴿وَإِنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (الحاقة : ٤٨) وذكرى كما قال :﴿ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنعام : ٩٠) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن، وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل.
القول الرابع : يمكن حملها أيضاً على بعثة الأنبياء عليهم السلام ﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف، فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله، وهو مفتاح كل خير ومعروف ﴿فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا﴾ معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيراً ضعيفاً، ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح ﴿وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم ﴿فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا﴾ المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد ﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله، ويأمرونهم به ويحثونهم عليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٨
القول الخامس : أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلاً بمصالح الدنيا مستغرقاً في طلب لذاتها وراحاتها، ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى، فتلك الدواعي هي المرسلات عرفاً، ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما : إزالة حب / ماسوى الله تعالى عن القلب، وهو المراد من قوله :﴿فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا﴾ والثاني : ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله، ولا ينظر إلا الله، فذلك هو قوله :﴿وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجوداً، ويرى كل ما سواه معدوماً، فذلك قوله :﴿فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا﴾ ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره، فذلك قوله :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾.


الصفحة التالية
Icon