واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء أولها : الأرض، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال : كفت الشيء أي ضممته، ويقال : جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئاً مما يجعل فيه، ويقال للقدر : كفت. قال صاحب الكشاف : هو اسم ما يكفت، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع، ويقال : هذا الباب جماع الأبواب، وتقول : شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شداداً، وبه انتصب أحياء وأمواتاً كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً، أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة، ثم في المعنى / وجوه أحدها : أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم، ولهذا كانوا يسمون الأرض أما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم وثانيها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة، فأما أنها تكفت (الأحياء) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب، لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها : أن قوله :﴿أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا﴾ معناه راجع إلى الأرض، والحي ما أنبت والميت مالم ينبت، بفي في الآية سؤالان :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٧٩
الأول : لم قيل :﴿أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا﴾ على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً ؟
الجواب : هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون، وأمواتاً لا يحصرون.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش ؟
الجواب : نقل القفال أن ربيعة قال : دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزاً له، والسارق، من الحرز يجب عليه القطع.
النوع الثاني : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـامِخَـاتٍ﴾ فقوله :﴿رَوَاسِىَ﴾ أي ثوابت على ظهر الأرض لا تزول و﴿شَـامِخَـاتٍ﴾ أي عاليات، وكل عال فهو شامخ، ويقال : للمتكبر شامخ بأنفه، ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب.
النوع الثالث : من النعم قوله تعالى :﴿وَأَسْقَيْنَـاكُم مَّآءً فُرَاتًا﴾ الفرات هو الغاية في العذوبة، وقد تقدم تفسيره في قوله :﴿هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٧٩
٧٧٩
اعلم أن هذا هو النوع الخامس : من وجوه تخويف الكفار وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة فأما قوله :﴿انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ﴾ فالمعنى أنه يقال لهم :﴿انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ﴾ من العذاب، والظاهر أن القائلين هم خزنة النار الثاني تكرير، وقرأ / يعقوب ﴿تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا ﴾ على لفظ الماضي، والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه، وهذا بعيد لأنه كان ينبغي أن يقال : فانطلقوا بالفاء، ليرتبط آخر الكلام بأوله، قال المفسرون : إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهناك يقولون :﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ ويقال للمكذبين :﴿انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ﴾ من عذاب الله وعقابه، وقوله :﴿إِلَى ظِلٍّ﴾ يعني دخان جهنم كقوله :﴿وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾ ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات :


الصفحة التالية
Icon