قال القفال : كلا لفظة وضعت لرد شيء قد تقدم، هذا هو الأظهر منها في الكلام، والمعنى ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم إنه باطل أو إنه لا يكون، وقال قائلون كلا معناه حقاً، ثم إنه تعالى قرر ذلك الردع والتهديد، فقال :﴿كَلا سَيَعْلَمُونَ﴾ وهو وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه، وأما تكرير الردع، ففيه وجهان الأول : أن الغرض من التكرير التأكيد والتشديد، ومعنى ثم الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد والثاني : أن ذلك ليس بتكرير، ثم ذكروا وجوهاً أحدها : قال الضحاك الآية الأولى للكفار والثانية للمؤمنين أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم وثانيها : قال القاضي : ويحتمل أن يريد بالأول سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة، ويريد بالثاني سيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه وثالثها :﴿كَلا سَيَعْلَمُونَ﴾ ما الله فاعل بهم يوم القيامة ﴿ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ﴾ أن الأمر ليس كما كانوا يتوهمون من أن الله غير باعث لهم ورابعها :﴿كَلا سَيَعْلَمُونَ﴾ ما يصل إليهم من العذاب في الدنيا وكما جرى على كفار قريش يوم بدر ﴿ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ﴾ بما ينالهم في الآخرة.
المسألة الثالثة : جمهور القراء قرأوا بالياء المنقطة من تحت في (سيعلمن) وروي بالتاء المنقطة من فوق عن ابن عامر. قال الواحدي : والأول أولى، لأن ما تقدم من قوله :﴿هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ (النبأ : ٣) على لفظ الغيبة، والتاء على قل لهم : ستعلمون، وأقول : يمكن أن يكون ذلك على سبيل الالتفات، وهو ههنا متمكن حسن، كمن يقول : إن عبدي يقول كذا وكذا، ثم يقول لعبده : إنك ستعرف وبال هذا الكلام.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٩
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات، وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعاً من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان، فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض، ثبت لا محالة كونه تعالى قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا من عجائب مخلوقاته أموراً فأولها : قوله :﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا﴾ والمهاد مصدر، ثم ههنا احتمالات أحدها : المراد منه ههنا الممهود، أي ألم نجعل الأرض ممهودة / وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر، كقولك هذا ضرب الأمير وثانيها : أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر، كما تقول : زيد جود وكرم وفضل، كأنه لكماله في تلك الصفة صارعين تلك الصفة وثالثها : أن تكون بمعنى ذات مهاد، وقرىء مهداً، ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي، وهو الذي مهد له فينوم عليه.
واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله :﴿جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا﴾ (البقرة : ٢٢) كل ما يتعلق من الحقائق بهذه الآية.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٩
وثانيها : قوله تعالى :﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ أي للأرض (كي) لا تميد بأهلها، فيكمل كون الأرض مهاداً بسبب ذلك قد تقدم أيضاً.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٩
١٠
وثالثها : قوله تعالى :﴿وَخَلَقْنَـاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ وفيه قولان : الأول : المراد الذكر والأنثى كما قال :﴿وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى ﴾ (النجم : ٤٥)، والثاني : أن المراد منه كل زوجين و(كل) متقابلين من القبيح والحسن والطويل والقصير وجميع المتقابلات والأضداد، كما قال :﴿وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ (الذاريات : ٤٩) وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان، فيتعبد الفاضل بالشكر والمفضول بالصبر ويتعرف حقيقة كل شيء بضده، فالإنسان إنما يعرف قدر الشباب عند الشيب، وإنما يعرف قدر الأمن عند الخوف، فيكون ذلك أبلغ في تعريف النعم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠
١٠


الصفحة التالية
Icon