وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا﴾ أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة. فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله :﴿جَزَآءً وِفَاقًا﴾ (النبأ : ٢٦) فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت، ولم ينتبه لها أحد، فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار.
واعلم أن قوله تعالى :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا﴾ يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله :﴿كِذَّابًا﴾ أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج :
لقد طال ماريثتني عن صحابتي
وعن حوج قضَّاؤها من شفائنا
من قضَّيت قضَّاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرَّقت القميص خرَّاقاً، وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحلو أحب إليك أم العِصَّار ؟
وقال صاحب "الكشاف" كنت أفسر آية فقال بعضهم : لقد فسرتها فِسَّاراً ما سمع به، وقرىء بالتخفيف وفيه وجوه : أحدها : أنه مصدر كَذَّب بدليل قوله :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢١
فصدقتها أو كذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله تعالى :﴿أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا﴾ (نوح : ١٧) يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وثانيها : أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها : أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة، فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين. لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرىء أيضاً كذلك وهو جمع كاذب، أي كذبوا بآياتنا كاذبين، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال، فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢١
٢١
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له، وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له، فقال :﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج :﴿كُلٌّ﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿أَحْصَيْنَـاهُ﴾ والمعنى : وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ﴾ أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى :﴿أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه ﴾ (المجادلة : ٦) واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل : وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله :﴿جَزَآءً وِفَاقًا﴾ (النبأ : ٢٦) كأنه تعالى يقول : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً.
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا﴾ فيه وجهان : أحدهما : تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام "قيدوا العلم بالكتابة" فكأنه تعالى قال : وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني : أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، كقوله :﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ أو في صحف الحفظة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢١
٢١
ثم قال تعالى :﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾.


الصفحة التالية
Icon