ورابعها : قوله تعالى :﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ وفي الدهاق أقوال الأول : وهو قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد، و﴿دِهَاقًا﴾ أي ممتلئة، دعا ابن عباس غلاماً له فقال : اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس : هذا هو الدهاق قال عكرمة، ربما سمعت ابن عباس يقول : اسقنا وادهق لنا القول الثاني : دهاقاً أي متتابعة وهو قول أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد، قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض، ذكرها الليث والمتتابع كالمتداخل القول الثالث : يروى عن عكرمة أنه قال :﴿دِهَاقًا﴾ أي صافية، والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق، وهو خشبتان يعصر بهما، والمراد بالكأس الخمر، قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر، التقدير. وخمراً ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٣
٢٤
وخامسها : قوله :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ في الآية سؤالان :
الأول : الضمير في قوله :﴿فِيهَآ﴾ إلى ماذا يعود ؟
الجواب فيه قولان الأول : أنها ترجع إلى الكأس، أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها، وذلك لأن أهل الشراب / في الدنيا يتكلمون بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا بلغو والثاني : أن الكناية ترجع إلى الجنة، أي لا يسمعون في الجنة شيئاً يكرهونه.
السؤال الثاني : الكذاب بالتشديد يفيد المبالغة، فوروده في قوله تعالى :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا﴾ (النبأ : ٢٨) مناسب لأنه يفيد المبالغة في وصفهم بالكذب، أما وروده ههنا فغير لائق، لأن قوله :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ يفيد أنهم لا يسمعون الكذب العظيم وهذا لا ينفي أنهم يسمعون الكذب القليل، وليس مقصود الآية ذلك بل المقصود المبالغة في أنهم لا يسمعون الكذب البتة، والحاصل أن هذا اللفظ يفيد نفي المبالغة واللائق بالآية المبالغة في النفي والجواب : أن الكسائي قرأ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف، ولعل غرضه ما قررناه في هذا السؤال، لأن قراءة التخفيف ههنا تفيد أنهم لا يسمعون الكذب أصلاً، لأن الكذاب بالتخفيف والكذب واحد لأن أبا علي الفارسي قال : كذاب مصدر كذب ككتاب مصدر كتب فإذا كان كذلك كانت القراءة بالتخفيف تفيد المبالغة في النفي، وقراءة التشديد في الأول تفيد المبالغة في الثبوت فيحصل المقصود من هذه القراءة في الموضعين على أكمل الوجوه، فإن أخذنا بقراءة الكسائي فقد زال السؤال، وإن أخذنا بقراءة التشديد في الموضعين وهي قراءة الباقين، فالعذر عنه أن قوله :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ إشارة إلى ما تقدم من قوله :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا﴾ والمعنى أن هؤلاء السعداء لا يسمعون كلامهم المشوش الباطل الفاسد، والحاصل أن النعم الواصلة إليهم تكون خالية عن زحمة أعدائهم وعن سماع كلامهم الفاسد وأقوالهم الكاذبة الباطلة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٤
٢٥
ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال :﴿جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : المعنى جازاهم بذلك جزاء، وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد.
المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء، وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق، وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف والجواب عنه : لا يصح إلا على قولنا : وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد، لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله، فذلك نظراً إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء، ونظراً إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء.
المسألة الثالثة : قوله :﴿حِسَابًا﴾ فيه وجوه الأول : أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم : أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني، ومنه قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي، أي كفاني من سؤالي، ومنه قوله :
فلما حللت به ضمني
فأولى جميلاً وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى والوجه الثاني : أن قوله : حساباً مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله :﴿عَطَآءً حِسَابًا﴾ أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه، وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمائة ضعف، ووجه على مالا نهاية له، كما قال :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر : ١٠)، الوجه الثالث : وهو قول ابن قتيبة :﴿عَطَآءً حِسَابًا﴾ أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له، قال الشاعر :
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا
ونحسبه إن كان ليس بجائع


الصفحة التالية
Icon