المسألة الثانية : اختلفوا في الروح في هذه الآية، فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال. وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً، وعن مجاهد : خلق على / صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليس بناس، وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم، وعلى هذا معناه ذو الروح، وعن ابن عباس أرواح الناس، وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام، وهذا القول هو المختار عند القاضي. قال : لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام، وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام. أما قوله :﴿صَفًّا﴾ فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً، ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر فينبىء عن الواحد والجمع، وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين، فيقوم الروح وحده صفاً، وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم، وقال بعضهم : بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (الفجر : ٢٢).
المسألةالثالثة : الاستثناء إلى من يعود ؟
فيه قولان :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٨
أحدهما : إلى الروح والملائكة، وعلى هذا التقدير ؛ الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها : حصول الإذن من الله تعالى، ونظيره قوله تعالى :﴿مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه ﴾ (البقرة : ٢٥٥) والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله.
والشرط الثاني : أن يقول : صواباً، فإن قيل : لما أذن له الرحمن في ذلك القول، علم أن ذلك القول صواب لا محالة، فما الفائدة في قوله :﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب، فكأنه قيل : إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام، ثم بد ورود ذلك الإذن يجتهدون، ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني : أن تقديره : لا يتكلمون إلا في حق ﴿مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً، واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله، لأن قوله :﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحداً/ فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني : أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض، والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى.
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٨
٢٨
﴿ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾ ذلك إشارة إلى تقدم ذكره، وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها : أنه يحصل فيه كل الحق، ويندمغ كل باطل، فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل : إنه حق، كما يقال : فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً، وقوله :﴿ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾ يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل، لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها : أن الحق هو الثابت الكائن، وبهذا المعنى يقال إن الله حق، أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً وثالثها : أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم، لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة، والأحوال فيها غير معلومة.
قوله تعالى :﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه مَـاَابًا﴾ أي مرجعاً، والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة، وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال : المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٨
٣٣
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال :﴿إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، و(هو) كقوله تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٤٦) وإنما سماه إنذاراً، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار.
ثم قال تعالى :﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon