أما قوله :﴿وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا﴾ فقال صاحب "الكشاف" : معناه أنها تخرج من برج إلى برج من قولك : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد. وأقول يرجع حاصل هذا الكلام إلى أن قوله :﴿وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا﴾ إشارة إلى حركتها اليومية ﴿وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا﴾ إشارة إلى انتقالها من برج إلى برج وهو حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة، والعجب أن حركاتها اليومية قسرية، وحركتها من برج إلى برج ليست قسرية، بل ملائمة لذواتها، فلا جرم عبر عن الأول بالنزع وعن الثاني بالنشط، فتأمل أيها المسكين في هذه الأسرار.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
وأما قوله :﴿وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا﴾ فقال الحسن وأبو عبيدة رحمهما الله : هي النجوم تسبح في الفلك، لأن مرورها في الجو كالسبح، ولهذا قال :﴿كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (الأنبياء : ٣٣).
وأما قوله :﴿فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا﴾ فقال الحسن وأبو عبيدة : وهي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير بسبب كون بعضها أسرع حركة من البعض، أو بسبب رجوعها أو استقامتها.
وأما قوله تعالى :﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ ففيه وجهان أحدهما : أن بسبب سيرها وحركتها يتميز بعض الأوقات عن بعض، فتظهر أوقات العبادات على ما قال تعالى :﴿فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ وقال :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (البقرة : ١٨٩) وقال :﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ ولأن بسبب حركة الشمس تختلف الفصول الأربعة، ويخلف بسبب اختلافها أحوال الناس في المعاش، فلا جرم أضيفت إليها هذه التدبيرات والثاني : أنه لما ثبت بالدليل أن كل جسم محدث ثبت أن الكواكب محدثة مفتقرة إلى موجد يوجدها، وإلى صانع يخلقها، ثم بعد هذا لو قدرنا أن صانعها أودع فيها قوى مؤثرة في أحوال هذا العالم، فهذا يطعن في الدين البتة، وإن لم نقل بثبوت هذه القوى أيضاً، لكنا نقول : أن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأن جعل كل واحد من أحوالها المخصوصة سبباً لحدوث حادث مخصوص في هذا العالم، كما جعل الأكل سبباً للشبع، والشرب سبباً للري، ومماسة النار سبباً للاحتراق، فالقول بهذا المذهب لا يضر الإسلام البتة بوجه من الوجوه، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
الوجه الثالث : في تفسير هذه الكلمات الخمسة أنها هي الأرواح، وذلك لأن نفس الميت تنزع، يقال فلان في النزع، وفلان ينزع إذا كان في سياق الموت، والأنفس نازعات عند السياق، ومعنى ﴿غَرْقًا﴾ أي نزعاً شديداً أبلغ ما يكون وأشد من إغراق النازع في القوس وكذلك تنشط لأن النشط معناه الخروج/ ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة، ومنازل القدس على أسرع الوجوه في روح وريحان، فعبر عن ذهابها على هذه الحالة بالسباحة، ثم لا شك أن مراتب الأرواح / في النفرة عن الدنيا ومجبة الاتصال بالعالم العلوي مختلفة فكلما كانت أتم في هذه الأحوال كان سيرها إلى هناك أسبق، وكلما كانت أضعف كان سيرها إلى هناك أثقل، ولا شك أن الأرواح السابقة إلى هذه الأحوال أشرف فلا جرم وقع القسم بها، ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ أليس أن الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها ؟
أليس أن الابن قد يرى أباه في المنام فيهديه إلى كنز مدفون ؟
أليس أن جالينوس قال : كنت مريضاً فعجزت عن علاج نفسي فرأيت في المنام واحداً أرشدني إلى كيفية العلاج ؟
أليس أن الغزالي قال : إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها، ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن، فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاماً ؟
ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة، وهذه المعاني وإن لم تكن منقولة عن المفسرين إلا أن اللفظ محتمل لها جداً.
الوجه الرابع : في تفسير هذه الكلمات الخمس أنها صفات خيل الغزاة فهي نازعات لأنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وهي لأنها تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، من قولهم : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، وهي سابحات لأنها تسبح في جريها وهي سابقات، لأنها تسبق إلى الغاية، وهي مدبرات لأمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها مجاز لأنها من أسبابه.


الصفحة التالية
Icon