المسألة الثالثة : اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله : أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة، فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها : أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى، وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً، وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية، فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها : أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها : أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لا بد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال، هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم :﴿أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا نَّخِرَةً﴾ والجواب : عن هذه الشبهة من وجوه أولها : وهو الأقوى : لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله : أنا هو هذا الهيكل، ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول : أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل، والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني : أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة/ والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال، فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله : أنا ليس هو هذا الهيكل، ثم ههنا ثلاث احتمالات أحدها : أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها : أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد / في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة، إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها : أن يقال : إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره، وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء. وتبقى حية، إما في السعادة أو في الشقاوة، وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة، وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث. وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة، سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، فلم قلتم : إن الإعادة ممتنعة ؟
قوله ؟
(أولاً) : المعدوم لا يعاد : قلنا : أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده، فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود، قول : ثانياً : الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة، قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عام بجميع الجزئيات، وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها. وإعادة الحياة إليها. قوله : ثالثاً : الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة. قلنا : نرى السمندل، يعيش في النار، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة، والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج، فبطل الاعتماد على الاستقراء، والله الهادي إلى الصدق والصواب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
٣٩
النوع الثالث : من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن منكري البعث ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ والمعنى كرة منسوبة إلى الخسران، كقولك تجارة رابحة، أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا، وهذا منهم استهزاء.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٩
٣٩
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه الكلمات قال :﴿فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله :﴿فَإِذَا هُم﴾ متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته.
المسألة الثانية : يقال : زجر البعير إذا صاح عليه، والمراد من هذه الصيحة النفخة الثانية وهي صيحة إسرافيل، قال المفسرون : يحيهم الله في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿وَمَا يَنظُرُ هَـا ؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ (ص : ١٥).


الصفحة التالية
Icon