على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصامت :
دحوت البلاد فسويتها
وأنت على طيها قادر
قال أهل اللغة في هذه اللفظة لغتان دحوت أدحو، ودحيت أدحى، ومثله صفوت وصفيت ولحوت العود ولحيته وسأوت الرجل وسأيته وبأوت عليه وبأيت، وفي حديث علي عليه السلام "اللهم داحى المدحيات" أي باسط الأرضين السبع وهو المدحوات أيضاً، وقيل : أصل الدحو الإزالة للشيء من مكان إلى مكان، ومنه يقال : إن الصبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض، وأدحى النعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت ما فيه من حصى، حتى يتمهد له، وهذا يدل على أن معنى الدحو يرجع إلى الإزالة والتمهيد.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يقتضي كون الأرض بعد السماء، وقوله : في حم السجدة، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ﴾ (فصلت : ١١) يقتضي كون السماء بعد الأرض، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ﴾ (البقرة : ٢٩) ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه أحدها : أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض أي بسطها ثالثاً، وذلك لأنها كانت أولاً كالكرة المجتمعة، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها، فإن قيل الدلائل الاعتبارية دلت على أن الأرض الآن كرة أيضاً، وإشكال آخر وهو أن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي، فيستحيل أن يكون هذا الجسم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وثانيها : أن لا يكون معنى قوله ﴿دَحَـاـاهَآ﴾ : مجرد البسط، بل يكون المراد أنه بسطها بسطاً مهيأ لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله :﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٣١) وذلك لأن هذا الاستعداد لا يحصل للأرض إلا بعد وجود السماء فإن الأرض كالأم والسماء كالأب، وما لم يحصلا لم تتولد أولاً المعادن والنباتات والحيوانات وثالثها : أن يكون قوله :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ﴾ أي مع ذلك كقوله :﴿عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ﴾ (القلم : ١٣) أي مع ذلك، وقولك للرجل أنت كذا وكذا ثم أنت بعدها كذا لا تريد به الترتيب، وقال تعالى :﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ﴾ إلى قوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (البلد : ١٧) والمعنى وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله، فهذا تقرير ما نقل عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جريج أنهم قالوا في قوله :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ أي مع ذلك دحاها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٧
المسألة الثالثة : لما ثبت أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً، ثم دحى الأرض بعد ذلك ثالثاً، ذكروا في تقدير تلك الأزمنة وجوهاً. روي عن عبد الله بن عمر "خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دحيت الأرض" واعلم أن الرجوع في أمثال هذه الأشياء إلى كتب الحديث أولى.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٧
٤٨
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ماؤها عيونها المتفجرة بالماء ومرعاها رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي، ونصب الأرض والجبال بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير، وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء، فإن قيل : هلا أدخل حرف العطف على أخرج قلنا لوجهين ؟
الأول : أن يكون معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المشارب والمآكل وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها والثاني : أن يكون ﴿أَخْرَجَ﴾ حالاً، والتقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماء ومرعاها.


الصفحة التالية
Icon