الأول : قوله :﴿إِنَّهَا﴾ ضمير المؤنث، وقوله :﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَه ﴾ (عبس : ١٢) ضمير المذكر، والضميران عائدان إلى شيء واحد، فكيف القول فيه ؟
الجواب : وفيه وجهان الأول : أن قوله :﴿إِنَّهَا﴾ ضمير المؤنث، قال مقاتل : يعني آيات القرآن، وقال الكلبي : يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله :﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَه ﴾ عائد إلى التذكرة أيضاً، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ الثاني : قال صاحب "النظم" :﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ يعني به القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكَّره لجاز كما قال في موضع آخر :﴿كَلا إِنَّه تَذْكِرَةٌ﴾ (المدثر : ٥٤) والدليل على أن قوله :﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ المراد به القرآن قوله :﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَه ﴾.
السؤال الثاني : كيف اتصال هذه الآية بما قبلها ؟
الجواب : من وجهين الأول : كأنه قيل : هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة الثاني : كأنه قيل : هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم، وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلب أرباب الدنيا.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٦
٥٧
قوله :﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَه ﴾ أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه والثاني : قوله :﴿فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾ أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف، والمراد من الصحف قولان : الأول : أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهر عن أيدي الشياطين، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٧
٥٧
ثم قال تعالى :﴿بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَاما بَرَرَةٍ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الله تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصفات :
أولها : أنهم سفرة وفيه قولان : الأول : قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة : هم الكتبة من الملائكة، قال الزجاج : السفرة الكتبة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب، وإنما قيل للكتبة : سفرة وللكاتب سافر، لأن معناه أنه الذي يبين الشيء ويوضحه يقال : سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها القول الثاني : وهو اختيار الفراء أن السفرة ههنا هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله، واحدها سافر، والعرب تقول : سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته، كالسفير الذي يصلح به بين القوم، وأنشدوا :
وما أدع السفارة بين قومي
وما أمشى بغش إن مشيت
واعلم أن أصل السفارة من الكشف، والكاتب إنما يسمى سافراً لأنه يكشف، والسفير إنما سمي سفيراً أيضاً لأنه يكشف، وهؤلاء الملائكة لما كانوا وسايط بين الله وبين البشر في البيان والهداية والعلم، لا جرم سموا سفرة.
الصفة الثانية لهؤلاء الملائكة : أنهم ﴿كِرَام ﴾ قال مقاتل : كرام على ربهم، وقال عطاء : يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة.
الصفة الثانية : أنهم :﴿بَرَرَةٍ﴾ قال مقاتل : مطيعين، وبررة جمع بار، قال الفراء : لا يقولون فعلة للجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة، وفاجر وفجرة القول الثاني : في تفسير الصحف : أنها هي صحف الأنبياء لقوله :﴿إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى ﴾ الأعلى : ١٨) يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين، والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقيل هم القراء.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ﴾ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السفرة، فقال القفال في تقريره : لما كان لا يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يسمها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٧
٥٧
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل : وأي سبب في هذا العجب والترفع مع أن أوله نطفة قذوة وآخره جيفة مذرة، وفيها بين الوقتين حمال عذرة، فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم، فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر والنشر.


الصفحة التالية
Icon