وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب للشتاء أي تعد، ولما ذكر الله تعالى ما يغتذى به الناس والحيوان. قال :﴿مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلانْعَامِكُمْ﴾.
قال الفراء : خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم، وقال الزجاج : هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله :﴿فَأَنابَتْنَا﴾ لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أموراً ثلاثة : أولها : الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان، لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكداً لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه ذلك أيضاً إلى ترك التكبر على الناس، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد، فلا جرم ذكر القيامة : فقال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٣
قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة، قال الزجاج : أصل الصخ في اللغة الطعن والصك، يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب بصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن، فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها للآذان، وذكر صاحب "الكشاف" وجهاً آخر فقال : يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً لأن الناس يصخون لها أي يستمعون. ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى :
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات. يقول الأخ : ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول أطعمتني الحرام، وفعلت وصنعت، والبنون يقولون : ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل : أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح، ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد، بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه، وهو كقوله تعالى :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ﴾ (البقرة : ١٦٦) وأما الفرار من نصرته، وهو كقوله تعالى :﴿يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْاًا﴾ (الدخان : ٤١) وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى :﴿وَلا يَسْاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ (المعارج : ١٠).
المسألة الثانية : المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة، ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل :﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد، لأن تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين. ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى :
وفي قوله :﴿يُغْنِيهِ﴾ وجهان الأول : قال ابن قتيبة : يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد :
سيغنيك حرب بني مالك
عن الفحش والجهل في المحفل
أي سيشغلك، ويقال أغن عني وجهك أي أصرفه الثاني : قال أهل المعاني : يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصارت شبيهاً بالغنى في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير. واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول، بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء، ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٣
مسفرة مضيئة متهللة، من أسفر الصبح إذا أضاء، وعن ابن عباس من قيام الليل لما روى من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وعن الضحاك، من آثار الوضوء، وقيل : من طول ما أغبرت في سبيل الله، وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة، قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه، واعلم أن قوله : مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته / وأما الضاحكة والمستبشرة، فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية، أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
قال المبرد : الغبرة ما يصيب الإنسان من الغبار، وقوله :﴿تَرْهَقُهَا﴾ أي تدركها عن قرب، كقولك رهقت الجبل إذا لحقته بسرعة، والرهق عجلة الهلاك، والقترة سواد كالدخان، ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا أغبرت، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة، كما جمعوا بين الكفر والفجور، والله أعلم.
واعلم أن المرئجة والخوارج تمسكوا بهذه الآية، أما المرجئة فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان : أهل الثواب، وأهل العقاب، ودلت على أن أهل العقاب هم الكفرة، وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة، وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب، وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب، وأما الخوارج فإنهم قالوا : دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب، ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر، فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب : أكثر ما في الباب أن المذكور ههنا هو هذا الفريقان، وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث، والله أعلم ؛ والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٣
٦٨


الصفحة التالية
Icon