الكلام في قوله :﴿لا أُقْسِمُ﴾ قد تقدم في قوله :﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ (القيامة : ١)، ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ فيه قولان : الأول : وهو المشهور الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس، والخنوس والانقباض والاستخفاء تقول : خنس من بين القوم وانخنس، وفي الحديث "الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس" أي انقبض ولذلك سمي الخناس جمع كانس وكانسة يقال : كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها، وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس. ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه فالقول الأظهر : أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها فرجوعها هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس، ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة القول الثاني : ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها والقول الثالث : أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى :﴿أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـارِقِ وَالْمَغَـارِبِ﴾ (المعارج : ٤٠) ولا شك أن فيها مطلعاً واحداً ومغرباً واحداً هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رؤوسنا، ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة، ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع، وكنوسها عبارة عن عودها إليه، فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعاً بالخمسة المتحيرة، وعلى القول الثاني يكون القسم واقعاً بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعاً بالسبعة السيارة والله أعلم بمراده.
والقول الثاني : أن ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ وهو قول ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش، وقال سعيد بن جبير : هي الظباء، وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول، والدليل عليه أمران :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٩
٦٩
الأول : أنه قال بعد ذلك :﴿الْكُنَّسِ * وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش.
الثاني : أن محل قسم الله كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى، ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش.
الثالث : أن (الخنس) جمع خانس من الخنوس، وإما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف، ولا يقال : الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضاً من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين.
قوله تعالى :﴿وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد، يقال : عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج :
حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل :
مدرجات الليل لما عسعسا
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٩
٧٠
ثم منهم من قال : المراد ههنا أقبل الليل، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعاً بإقبال الليل وهو قوله :﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾ وبإدباره أيضاً وهو قوله :﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ ومنهم من قال : بل المراد أدبر وقوله :﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي امتد ضوءه وتكامل فقوله :﴿وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ (التكوير : ١٧) إشارة إلى أول طلوع الصبح، وهو مثل قوله :﴿وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ (المدثر : ٣٤، ٣٣) وقوله :﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار.
وأما قوله تعالى :﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي إذا أسفر كقوله :﴿وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ﴾ (المدثر : ٣٤) ثم في كيفية المجاز قولان :
أحدهما : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، وقيل تنفس الصبح.
والثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك، واجتمع الحزن في قلبه، فإذا تنفس وجد راحة. فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٧٠
٧٠
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال :﴿إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ وفيه قولان :


الصفحة التالية
Icon