النوع الأول : أنه سبحانه زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله :﴿كَلا﴾ و﴿بَلْ﴾ حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدم وتحقق غيره، فلا جرم ذكروا في تفسير ﴿كَلا﴾ وجوهاً الأول : قال القاضي : معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم وإرشادي لكم، بل تكذبون بيوم الدين الثاني : كلا أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله، ثم كأنه قال : وإنكم لا ترتدعون عن ذلك بل تكذبون بالدين أصلاً الثالث : قال القفال : كلا أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور، لأن ذلك يوجب أن الله تعالى خلق الخلق عبثاً وسدى، وحاشاه من ذلك، ثم كأنه قال : وإنكم لا تنتفعون بهذا البيان بل تكذبون، وفي قوله :﴿تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ وجهان الأول : أن يكون المراد من الدين الإسلام، والمعنى أنكم تكذبون بالجزاء على الدين والإسلام الثاني : أن يكون المراد من الدين الحساب، والمعنى أنكم تكذبون بيوم الحساب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٨٠
٨٢
النوع الثاني : قوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾.
والمعنى التعجب من حالهم، كأنه سبحانه قال : إنكم تكذبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء، وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة، ونظيره قوله تعالى :﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق : ١٨، ١٧) وقوله تعالى :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ا وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ (الأنعام : ٦١) ثم ههنا مباحث :
الأول : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه : أحدها : أن هؤلاء الملائكة، إما أن يكونوا مركبين من الأجسام اللطيفة كالهواء والنسيم والنار، أو من الأجسام الغليظة، فإن كان الأول لزم أن تنتقض بنيتهم بأدنى سبب من هبوب الرياح الشديدة وإمرار اليد والكم والسوط في الهواء، وإن كان الثاني وجب أن نراهم إذ لو جاز أن يكونوا حاضرين ولا نراهم، لجاز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار وفيلات وبوقات، ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في التجاهل، وكذا القول في إنكار صحائفهم وذواتهم وقلمهم وثانيها : أن هذا الاستكتاب إن كان خالياً عن الفوائد فهو عبث وذلك غير جائز على الله تعالى، وإن كان فيه فائدة فتلك الفائدة، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول : محال لأنه متعال عن النفع والضر، وبهذا يظهر بطلان قول من يقول : إنه تعالى إنما استكتبها خوفاً من النسيان الغلط والثاني : أيضاً محال، لأن أقصى ما في الباب أن يقال : فائدة هذا الاستكتاب أن يكونوا شهداء على الناس وحجة عليهم يوم القيامة إلا أن هذه الفائدة ضعيفة، لأن الإنسان الذي علم أن الله تعالى لا يجور ولا يظلم، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة، والذي لا يعلم ذلك لا ينتفع بهذه الحجة لاحتمال / أنه تعالى أمرهم بأن يكتبوا تلك الأشياء عليه ظلماً وثالثها : أن أفعال القلوب غير مرئية ولا محسوسة فتكون هي من باب المغيبات، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى على ما قال :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ (
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٨٢
الأنعام : ٥٩) وإذا لم تكن هذه الأفعال معلومة للملائكة استحال أن يكتبوها والآية تقضي أن يكونوا كاتبين علينا كل ما نفعله، سواء كان ذلك من أفعال القلوب أم لا ؟
والجواب : عن الأول : أن هذه الشبهة لا تزال إلا على مذهبنا بناء على أصلين أحدهما : أن البنية ليست شرطاً للحياة عندنا والثاني : أي عند سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط لا يجب الإدراك، فعلى الأصل الأول يجوز أن تكون الملائكة أجراماً لطيفة تتمزق وتتفرق ولكن تبقى حياتها مع ذلك، وعلى الأصل الثاني يجوز أن يكونوا أجساماً كثيفة لكنا لا نراها والجواب : عن الثاني أن الله تعالى إنما أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم، ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة، فيخرج لهم كتب منشورة، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره، فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا، وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خلفته وفعلت كذا وكذا، فكذا ههنا والله أعلم بحقيقة ذلك الجواب : عن الثالث أن غاية ما في الباب تخصيص هذا العموم بأفعال الجوارح، وذلك غير ممتنع.
البحث الثاني : أن قوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ﴾ وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة مجمعة على أن هذا الحكم عام في حق كل المكلفين، ثم ههنا احتمالان :
أحدهما : أن يكون هناك جمع من الحافظين، وذلك الجمع يكونون حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم.


الصفحة التالية
Icon