وأما الصفة الثالثة : للمكذبين بيوم الدين فهو قوله :﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ والمراد منه الذين ينكرون النبوة، والمعنى إذا تلي عليه القرآن قال أساطير الأولين، وفيه وجهان أحدهما : أكاذيب الأولين والثاني : أخبار الأولين وأنه عنهم أخذ أي يقدح في كون القرآن من عند الله بهذا الطريق، وههنا بحث آخر : وهو أن هذه الصفات الثلاثة هل المراد منها شخص معين أولاً ؟
فيه قولان : الأول : وهو قول الكلبي : أن المراد منه الوليد بن المغيرة، وقال آخرون : إنه النضر بن الحارث، واحتج من قال : إنه الوليد بأنه تعالى قال في سورة ن :﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ﴾ إلى قوله ﴿مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ إلى قوله ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ (ن : ١٥، ١٠) فقيل إنه : الوليد بن المغيرة، وعلى هذا التقدير يكون المعنى : وما يكذب بيوم الدين من قريش أو من قومك إلا كل معتد أثيم/ وهذا هو الشخص المعين والقول الثاني : أنه عام في حق جميع الموصوفين بهذه الصفات، أما قوله تعالى :﴿كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين، بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الرين في قلوبهم، ولأهلهم اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه، ولأهل التفسير وجوه أخر، أما أهل اللغة فقال أبو عبيدة : ران على قلوبنهم غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران، والموت يرين على الميت فيذهب به، قال الليث : ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه، وهو يريد رينا، وريوناً، ومن هذا حديث عمر في أسيفع جهينة لما ركبه الدين "أصبح قد رين به" قال أبو زيد : يقال : رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه. قال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين، والأقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب، قال الزجاج : ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم، يقال : ران على قلبه الذنب يرين ريناً أي غشيه، والرين كالصدإ يغشى القلب ومثله العين، أما أهل التفسير، فلهم وجوه : قال الحسن : ومجاهد هو الذنب على الذنب، حتى تحيط الذنوب بالقلب، وتغشاه فيموت القلب، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة" وعن مجاهد القلب كالكف، فإذا أذنب الذنب انقبض، وإذا أذنب ذنباً آخر انقبض ثم يطبع عليه وهو الرين، وقال آخرون : كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله، وروي هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة، قلت : لا شك أن تكرر الأفعال سبب لحصول ملكة نفسانية، فإن من أراد تعلم الكتابة فكلما كان إتيانه بعمل الكتابة أكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم، إلى أن يصير بحيث يقدر على الإتيان بالكتابة من غير روية ولا فكرة، فهذه الهيئة النفسانية، لما تولدت من تلك الأعمال الكثيرة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية، إذا عرفت هذا فنقول : إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب، حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب، ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله، وكل ما يشغلك بغير الله فهو / ظلمة، فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد، ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها، فذلك هو المراد من قولهم : كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب، ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة، لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة، فبعضها يكون ريناً وبعضها طبعاً وبعضها أقفالاً، قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالاً بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع، فاستمروا وصعب الأمر عليهم، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم، ومعلوم إن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة، وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي إلى الفعل، والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح، فبأن يكون ممتنعاً حال المرجوحية كان أولى، ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحاً، فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعاً، وتمام الكلام قد تقدم مراراً في هذا الكتاب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٩٣


الصفحة التالية
Icon