قلت : والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة، كما قال عليه الصلاة والسلام "أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد" وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة، وبعضها كدرة مؤذية / شريرة، فإذا قال الرجل :(أعوذ بكلمات الله التامات) فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة، وأيضاً كلمات الله هي قوله :"كن" وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء.
والخبر الخامس : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر" وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه.
والخبر السادس : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول :"أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" ويقول :"كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسمعيل وإسحق عليهما السلام".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
الخبر السابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت : أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام : عذت بمعاذ فالحقي بأهلك.
واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل، وإنما التفاته إلى القول، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم مشتغلاً بتلك الكلمة، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا.
والخبر الثامن : روى الحسن قال : بينما رجل يضرب مملوكاً له فجعل المملوك يقول :(أعوذ بالله) إذ جاء نبي الله فقال : أعوذ برسول الله، فأمسك عنه فقال عليه السلام : عائذ الله أحق أن يمسك عنه، فقال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام :"أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار.
والخبر التاسع : قال سويد : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت.
والخبر العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام :"أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك".
المستعاذ منه :
الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام ؛ في المستعاذ منه وهو الشيطان، والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما، / كما ذكره في قول الله تعالى :﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ (البقرة : ٢٧٥) وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات، ومن علوم المكاشفات.
الاختلاف في وجود الجن :
المسألة الأولى : اختلف الناس في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين، واعلم أنه لا بدّ أولاً من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم، بل القول المحصل فيه قولان : الأول : أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة. والقول الثاني : أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية، وهي الملائكة المقربون، كما قال الله تعالى :﴿وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ (الأنبياء : ١٩) ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام، وأشرفها حملة العرش، كما قال تعالى :﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ﴾ (الحاقة : ١٧) والمرتبة الثانية : الحافون حول العرش، كما قال تعالى :﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ (الزمر : ٧٥) والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسي، والمرتبة الرابعة : ملائكة السموات طبقة طبقة، والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير، والمرتبة السادسة : ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، والمرتبة السابعة : ملائكة الزمهرير، والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار، والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال، والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا لعالم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧


الصفحة التالية
Icon