أما قوله :﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه وَرَآءَ ظَهْرِه ﴾ فللمفسرين فيه وجوه أحدها : قال الكلبي : السبب فيه لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ويده اليسرى خلف ظهره وثانيها : قال مجاهد : تخلع يده اليسرى فتجعل من وراء ظهره وثالثها : قال قوم : يتحول وجهه في قفاه، فيقرأ كتابه كذلك ورابعها : أنه يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين يمنع من ذلك وأوتي من وراء ظهره بشماله فإن قيل أليس أنه قال في سورة الحاقة :﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِشِمَالِه ﴾ (الحاقة : ٢٥) ولم يذكر الظهر والجواب : من وجهين أحدهما : يحتمل أن يؤتى بشماله وراء ظهره على ما حكيناه عن الكلبي وثانيها : أن يكون بعضهم يعطى بشماله، وبعضهم من وراء ظهره.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠٠
أما قوله ﴿فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا﴾ فاعلم أن الثبور هو الهلاك، والمعنى أنه لما أوتي كتابه من غير يمينه علم أنه من أهل النار فيقول : واثبوراه، قال الفراء : العرب تقول فلان يدعوا لهفه، إذا قال : والهفاه، وفيه وجه آخر ذكره القفال، فقال : الثبور مشتق من المثابرة على شيء، وهي المواظبة عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لأنه لازم لا يزول، كما قال :﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ (الفرقان : ٦٥) وأصل الغرام اللزوم والولوع.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠٠
أما قوله تعالى :﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : صلى الكافر النار، قال الله تعالى :﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء : ١٠) وقال :﴿وَنُصْلِه جَهَنَّمَ ﴾ (آل عمران : ١١٥) وقال :﴿إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ١) وقال :﴿لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ (الليل : ١٦، ١٥) والمعنى أنه إذا أعطى كتابه بشماله من وراء ظهره فإنه يدعو الثبور ثم يدخل النار، وهو في النار أيضاً يدعو ثبوراً، كما قال :﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ (الفرقان : ١٣) وأحدهما لا ينفي الآخر، وإنما هو على اجتماعهما قبل دخول النار وبعد دخولها، نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل.
المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ويصلى بضم الياء والتخفيف كقوله :﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ وهذه القراءة مطابقة للقراءة المشهورة لأنه يصلى فيصلى أي يدخل النار. وقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بضم الياء مثقلة كقوله :(وتصلية جحيم) وقوله :﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ (الحاقة : ٣١).
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠٠
أما قوله تعالى :﴿إِنَّه كَانَ فِى أَهْلِه مَسْرُورًا﴾ فقد ذكر القفال فيه وجهين أحدهما : أنه كان في أهله مسروراً أي منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والصوم والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله ولا يرجوه فأبدله الله بذلك السرور الفاني غماً باقياً لا ينقطع، وكان المؤمن الذي أوتي كتابه بيمينه متقياً من المعاصي غير آمن من العذاب ولم يكن في دنياه مسروراً في أهله فجعله الله في الآخرة مسروراً فأبدله الله تعالى بالغم الفاني سروراً دائماً لا ينفذ الثاني : أن قوله :﴿إِنَّه كَانَ فِى أَهْلِه مَسْرُورًا﴾ كقوله :﴿وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى ا أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ (المطففين : ٣١) أي متنعمين في الدنيا معجبين بما هو عليه من الكفر فكذلك ههنا يحتمل أن يكون المعنى أنه كان في أهله مسروراً بما هم عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن به وصدق بالحساب، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠٤
أما قوله :﴿إِنَّه ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ فاعلم أن الحور هو الرجوع والمحار المرجع والمصير وعن ابن عباس. ما كنت أدرى ما معنى يحور، حتى سمعت إعرابية تقول لابنتها حوري أي ارجعي، ونقل القفال عن بعضهم أن الحور هو الرجوع إلى خلاف ما كان عليه المرء كما قالوا :"نعوذ بالله من الحور بعد الكور" فعلى الوجه الأول معنى الآية أنه ظن أن لن يرجع إلى الآخرة أي لن يبعث، وقال مقاتل وابن عباس : حسب أن لا يرجع إلى الله تعالى، وعلى الوجه الثاني أنه ظن أن لن يرجع إلى خلاف ما هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٤
١٠٤
ثم قال تعالى :﴿بَلَى ﴾ أي ليبعثن، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا ينتهي ولا يزول.


الصفحة التالية
Icon