المسألة الأولى : الأقرب أن المراد ﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بصحة البعث والقيامة لأنه تعالى حكى عن الكافر :﴿إِنَّه ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ (الإنشقاق : ١٤) ثم أفتى سبحانه بأنه يحور فلما قال بعد ذلك :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ دل على أن المراد :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بالبعث والقيامة، ثم اعلم أن قوله :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات، الأمر ههنا كذلك، وذلك لأنه سبحانه أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله :﴿وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم، وكذا قوله :﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ فأنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصاً، إنه تعالى أقسم بهذه الأحوال المتغيرة على تغير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال وصفة إلى صفة بحسب المصالح، لا بد وأن يكون في نفسه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات. ومن كان كذلك كان لا محالة قادراً على البعث والقيامة، فلما كان ما قبل هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة على صحة البعث والقيامة لا جرم قال على سبيل الاستبعاد :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾.
المسألة الثانية : قال القاضي : لا يجوز أن يقول الحكيم فيمن كان عاجزاً عن الإيمان ﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فلما قال ذلك دل على كونهم قادرين، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل/ وأن يكونوا موجدين لأفعالهم، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم. فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها البتة، وجوابه قد مر غير مرة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٤
١٠٤
أما قوله تعالى :﴿وَإِذَا قُرِى َ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة فعند سماعهم القرآن لا بد وأن يعلموا كونه معجزاً، وإذا علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ووجوب طاعته في الأوامر والنواهي، فلا جرم استبعد الله منهم عند سماع القرآن ترك السجود والطاعة.
المسألة الثانية : قال ابن عباس والحسن وعطاء والكلبي ومقاتل : المراد من السجود الصلاة / وقال أبو مسلم : الخضوع والاستكانة، وقال آخرون : بل المراد نفس السجود عند آيات مخصوصة، وهذه الآية منها.
المسألة الثالثة : روي أنه عليه السلام :"قرأ ذات يوم :﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴾ (العلق : ١٩) فسجد هو ومن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر" فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين الأول : أن فعله صلى الله عليه وسلّم يقتضي الوجوب لقوله تعالى :﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ والثاني : أن الله تعالى ذم من يسمعه فلا يسجد، وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب.
المسألة الرابعة : مذهب ابن عباس أنه ليس في المفصل سجدة، وعن أبي هريرة أنه سجد ههنا، وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسجد فيها، وعن أنس صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فسجدوا وعن الحسن هي غير واجبة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٤
١٠٥
أما قوله :﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فالمعنى أن الدلائل الموجبة للإيمان، وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها إما لتقليد الأسلاف، وإما للحسد وإما للخوف من أنهم لو أظهروا الإيمان لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٥
١٠٦
أما قوله تعالى :﴿يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ فأصل الكلمة من الوعاء، فيقال : أوعيت الشيء أي جعلته في وعاء كما قال :﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ (المعارج : ١٨) والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الشرك والتكذيب فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٦
١٠٦
ثم قال تعالى :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ استحقوه على تكذيبهم وكفرهم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٦
١٠٨
أما قوله :﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ففيه قولان قال : صاحب "الكشاف" الاستثناء منقطع، وقال : الأكثرون معناه إلا من تاب منهم فإنهم وإن كانوا في الحال كفاراً إلا أنهم متى تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر وهو الثواب العظيم.
وفي معنى :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ﴾ وجوه أحدها : أن ذلك الثواب يصل إليهم بلا من ولا أذى وثانيها : من غير انقطاع وثالثها : من غير تنغيص ورابعها : من غير نقصان، والأولى أن يحمل اللفظ على الكل، لأن من شرط الثواب حصول الكل، فكأنه تعالى وعدهم بأجر خالص من الشوائب دائم لا انقطاع فيه ولا نقص ولا بخس، وهذا نهاية الوعد فصار ذلك ترغيباً في العبادات، كما أن الذي تقدم هو زجر عن المعاصي والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٨
١١٢


الصفحة التالية
Icon