الرواية الثالثة : أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا، فأحرق منهم إثني عشر ألفاً في الأخاديد، وقيل سبعين ألفاً، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه إثنا عشر ذراعاً، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء" فإن قيل : تعارض هذه الروايات يدل على كذبها، قلنا : لا تعارض فقيل : إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن، ومرة بالعراق، ومرة بالشام، ولفظ الأخدود، وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن، وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً / كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنون على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١١٣
المسألة الثانية : الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلاً وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال : خد في الأرض خداً وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق.
المسألة الثالثة : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين، والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون، وروي أيضاً أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله :﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ (البروج : ١٠) أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذكروا في تفسير قوله تعالى :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ وجوهاً ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين. أما على الوجه الأول ففيه تفسيران أحدهما : أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود، ونظيره قوله تعالى :﴿قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه ﴾ (عبس : ١٧) ﴿قُتِلَ الْخَراَّصُونَ﴾ (الذاريات : ١٠) والثاني : أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم، وأما إذا فسرنا، أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار، فيكون ذلك خبراً لادعاء.
المسألة الرابعة : قرىء قتل بالتشديد. أما قوله تعالى :﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : النار إنما تكون عظيمة إذا كان هناك شيء يحترق بها إما حطب أو غيره، فالوقود اسم لذلك الشيء لقوله تعالى :﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (البقرة : ٢٤) وفي :﴿ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ تعظيم أمر ما كان في ذلك الأخدود من الحطب الكثير.
المسألة الثانية : قال أبو علي : هذا بدل الاشتمال كقولك : سلب زيد ثوبه فإن الأخدود مشتمل على النار.
المسألة الثالثة : قرىء الوقود بالضم، أما قوله تعالى :﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : العامل في إذ قتل والمعنى لعنوا في ذلك الوقت الذي هم فيه قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١١٣