وثانيها : قال قوم من المفسرين قوله :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ يعني من تصدق قبل مروره إلى العيد :﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى ﴾ يعني ثم صلى صلاة العيد بعد ذلك مع الإمام. وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمر وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا التفسير فيه إشكال من وجهين الأول : أن عادة الله تعالى في القرآن تقديم ذكر الصلاة على ذكر الزكاة لا تقديم الزكاة على الصلاة والثاني : قال الثعلبي : هذه السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. أجاب الواحدي عنه بأنه لا يمتنع أن يقال : لما كان في معلوم الله تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعل ذلك وثالثها : قال مقاتل :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ (الأعلى : ١٤) أي تصدق من ماله وذكر ربه بالتوحيد في الصلاة فصلى له، والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يتناول الزكاة والصلاة المفروضتين، والوجه الأول ليس كذلك ورابعها :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ ليس المراد منه زكاة المال بل زكاة الأعمال أي من تطهر في أعماله من الرياء والتقصير، لأن اللفظ المعتاد أن يقال : في المال زكى ولا يقال تزكى قال تعالى :﴿وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه ﴾ (فاطر : ١٨)، وخامسها : قال ابن عباس :﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ﴾ أي كبر في خروجه إلى العيد وصلى صلاة العيد وسادسها : المعنى وذكر اسم ربه في صلاته ولا تكون صلاته كصلاة المنافقين حيث يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٧
المسألة الثانية : الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، قال : لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة، واحتج أيضاً بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية، وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني، ولأبي حنيفة أن يقول : ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال : الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح. فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة، فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير، وحينئذ يندفع الاستدلال. ثم قال تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٧
١٣٨
وفيه قراءتان : قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي، أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة. قال ابن مسعود : إن الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل. وقرأ أبو عمرو : يؤثرون بالياء يعني الأشقى. ثم قال تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٨
١٣٨
وتمامه أن كل ما كان خيراً وأبقى فهو آثر، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا، وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه أحدها : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية، والدنيا ليست كذلك، فالآخرة خير من الدنيا وثانيها : أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام، والآخرة ليست كذلك وثالثها : أن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني. ثم قال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٨
١٣٩
واختلفوا في المشار إليه بلفظ هذا منهم من قال : جميع السورة، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله، والوعد على طاعة الله تعالى.
ومنهم من قال : بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ (الأعلى : ١٤) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي. أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله :﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ﴾ (الأعلى : ١٥) فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى، وأما قوله :﴿فَصَلَّى ﴾ (الأعلى : ١٥) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى.
وأما قوله :﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ (الأعلى : ١٥) فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا.
وأما قوله :﴿وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ (الأعلى : ١٥) فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع، فلهذا السبب قال :﴿إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى ﴾ وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه، روى عن أبي ذر أنه قال : قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى ؟
فقال : اقرأ يا أبا ذر ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ (الأعلى : ١٤) وقال آخرون : إن قوله هذا إشارة إلى قوله :﴿وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية، وأما قوله :﴿لَفِى الصُّحُفِ الاولَى ﴾ فهو نظير لقوله :﴿وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ﴾ وقوله :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ (الشورى : ١٣).
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٩
١٤٠
فيه قولان : أحدهما : أنه بيان لقوله :﴿فِى الصُّحُفِ الاولَى ﴾ (الأعلى : ١٨) والثاني : أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى، روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كم أنزل الله من كتاب ؟
فقال : مائة وأربعة كتب، على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقيل : إن في صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤٠
١٤٠


الصفحة التالية
Icon