المقام الثاني : في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر الإبل بالسحاب. قال صاحب "الكشاف" : ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل في كثير من أشعارهم، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة. أما إذا حملنا الإبل على مفهومه المشهور، فوجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض من وجهين الأول : أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيراً، لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل، فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء، لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة، فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه، فيرى منظراً عجيباً، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر، ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية الوجه الثاني : أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين : منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معاً، ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب، وليس للشهوة فيها نصيب.
والقسم الأول : كالإنسان الحسن الوجه، والبساتين النزهة، والذهب والفضة وغيرها، فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم، إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس، فلم يأمر تعالى بالنظر فيها، لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعاً عن إتمام النظر والفكر وسبباً لاستغراق النفس في محبته.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤٧
أما القسم الثاني : فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن، ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها، إلا أن ذكر الإبل ههنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا السماء والجبال والأرض، فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة، وليس فيها ما يكون نصيباً للشهوة، فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤٧
١٤٨
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل على صحة التوحيد والمعاد، قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم :﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك، وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه، وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره، فلهذا قال :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤٨
١٤٨
قال صاحب "الكشاف" : بمسلط، كقوله :﴿يَقُولُونَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ﴾ (ق : ٤٥) وقوله :﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس : ٩٩) وقيل : هو في لغة تميم مفتوح الطاء على أن سيطر متعد عندهم، والمعنى أنك ما أمرت إلا بالتذكير، فأما أن تكون مسلطاً عليهم حتى تقتلهم، أو تكرههم على الإيمان فلا، قالوا : ثم نسختها آية القتال، هذا قول جميع المفسرين، والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله :﴿أَمْ هُمُ﴾ (الطور : ٣٧). أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤٨
١٥١
ففيه مسائل.
المسألة الأولى : في الآية قولان : أحدهما : أنه استثناء حقيقي، وعلى هذا التقدير هذا الاستثناء، استثناء عماذا ؟
فيه احتمالان الأول : أن يقال التقدير : فذكر إلا من تولى وكفر والثاني : أنه استثناء عن الضمير في ﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ﴾ (الغاشية : ٢٢) والتقدير : لست عليهم بمسيطر إلا من تولى. واعترض عليه بأنه عليه السلام ما كان حينئذ مأموراً بالقتال وجوابه : لعل المراد أنك لا تصبر مسلطاً إلا على من تولى القول الثاني : أنه استثناء منقطع عما قبله، كما تقول في الكلام : قعدنا نتذكر العلم، إلا أن كثيراً من الناس لا يرغب، فكذا ههنا التقدير لست بمسئول عليهم، لكن من تولى منهم فإن الله يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم، قالوا وعلامة كون الاستثناء منقطعاً حسن دخول أن في المستثني، وإذا كان الاستثناء متصلاً لم يحسن ذلك، ألا ترى أنك تقول : عندي مائتان إلا درهماً، فلا تدخل عليه أن، وههنا يحسن أن، فإنك تقول : إلا أن من تولى وكفر فيعذبه الله.
المسألة الثانية : قرىء :(ألا من تولى) على التنبيه، وفي قراءة ابن مسعود :(فإنه يعذبه).
المسألة الثالثة : إنما سماه العذاب الأكبر لوجوه أحدها : أنه قد بلغ حد عذاب الكفر وهو الأكبر، لأن ما عداه من عذاب الفسق دونه، ولهذا قال تعالى :﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ﴾ (السجدة : ٢١)، وثانيها : هو العذاب في الدرك الأسفل في النار وثالثها : أنه قد / يكون العذاب الأكبر حاصلاً في الدنيا، وذلك بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال، القول الأول أولى وأقرب. ثم قال تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٥١
١٥٥
وهذا كأنه من صلة قوله :﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاكْبَرَ﴾ (الغاشية : ٢٤) وإنما ذكر تعالى ذلك ليزيل به عن قلب النبي صلى الله عليه وسلّم حزنه على كفرهم، فقال : طب نفساً عليهم، وإن عاندوا وكذبوا وجحدوا فإن مرجعهم إلى الموعد الذي وعدنا، فإن علينا حسابهم وفيه سؤال : وهو أن محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم وذلك حق الله تعالى، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه والجواب : أن ذلك واجب عليه إما بحكم الوعد الذي يمتنع وقوع الخلف فيه، وإما في الحكمة، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيهاً بكونه تعالى راضياً بذلك الظلم وتعالى الله عنه، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة وههنا مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ أبو جعفر المدني :﴿إِيَابَهُمْ﴾ بالتشديد. قال صاحب "الكشاف" : وجهه أن يكون فيعالا مصدره أيب فيعل من الإياب، أو يكون أصله أواباً فعالاً من أوب، ثم قيل : إيواباً كديوان في دون، ثم فعل به ما فعل بأصل سيد.
المسألة الثانية : فائدة تقديم الظرف التشديد بالوعيد، فإن ﴿إِيَابَهُمْ﴾ ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٥٥
١٥٧


الصفحة التالية
Icon