وأما قوله تعالى :﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الاوْتَادِ﴾ فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص، ونقول : الآن فيه وجوه أحدها : أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها : أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا، روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة، ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته وثالثها : ذي الأوتاد، أي ذي الملك والرجال، كما قال الشاعر :
في ظل ملك راسخ الأوتاد
ورابعها : روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله، واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك، فبين الله تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم، ولذلك قال تعالى :﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهذا هو الأقرب.
المسألة الثانية : أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على (الإخبار، أي) هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون.
المسألة الثالثة :﴿طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ﴾ أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى :﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى :﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ واعلم أنه يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. قال القاضي : وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : إن عند الله أسواطاً كثيرة فأخذهم بسوط منها، فإن قيل : أليس أن قوله تعالى :﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ (النحل : ٦١) يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟
قلنا : هذه الآية تقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة والواقع في الدنيا شيء من ذلك ومقدمة من مقدماته. ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ تقدم عند قوله :﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ (النبأ : ٢١) ونقول : المرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصد مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه، وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك ؟
فقال : بالمرصاد، وللمفسرين فيه وجوه أحدها :/ قال الحسن : يرصد أعمال بني آدم وثانيها : قال الفراء : إليه المصير، وهذان الوجهان عامان للمؤمنين والكافرين، ومن المفسرين من يخص هذه الآية إما بوعيد الكفار، أو بوعيد العصاة، أما الأول فقال الزجاج : يرصد من كفر به وعدل عن طاعته بالعذاب، وأما الثاني فقال الضحاك : يرصد لأهل الظلم والمعصية، وهذه الوجوه متقاربة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٠
١٦٠


الصفحة التالية
Icon