أما قوله :﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ فالمعنى أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.
الصفة الثالثة : من صفات ذلك اليوم قوله تعالى :﴿وَجِا ى ءَ يَوْمَـاـاِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ (الشعراء : ٩١) قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، قال الأصوليون : ومعلوم أنها لا تنفك عن مكانها، فالمراد ﴿وَبُرِّزَتِ﴾ أي ظهرت حتى رآها الخلق، وعلم الكافر أن مصيره إليها، ثم قال :﴿يَوْمَـاـاِذٍ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ﴾ واعلم أن تقدير الكلام : إذا دكت الأرض، وحصل كذا وكذا فيومئذ يتذكر الإنسان، وفي تذكره وجوه الأول : أنه يتذكر ما فرط فيه لأنه حين كان في الدنيا كانت همته تحصيل الدنيا، ثم إنه في الآخرة يتذكر أن ذلك كان ضلالاً، وكان الواجب عليه أن تكون همته تحصيل الآخرة الثاني : يتذكر أي يتعظ، والمعنى أنه ما كان يتعظ في الدنيا فيصير في الآخرة متعظاً فيقول :﴿فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا﴾ (الأنعام : ٢٧)، الثالث : يتذكر يتوب وهو مروي عن الحسن، ثم قال تعالى :﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ ﴿وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ﴾ (الدخان : ١٣) :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦١
واعلم أن بين قوله :﴿يَتَذَكَّرُ﴾ وبين قوله :﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ تناقضاً فلا بد من إضمار المضاف والمعنى ومن أين له منفعة الذكرى.
ويتفرع على هذه الآية مسألة أصوليه، وهي أن قبول التوبة عندنا غير واجب على الله عقلاً، وقالت المعتزلة : هو واجب. فنقول : الدليل على قولنا أن الآية دلت ههنا على أن الإنسان يعلم في الآخرة أن الذي يعمله في الدنيا لم يكن أصلح له وإن الذي تركه كان أصلح له، ومهما عرف ذلك لا بد وأن يندم عليه، وإذا حصل الندم فقد حصلت التوبة، ثم إنه تعالى نفى كون تلك التوبة نافعة بقوله :﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ فعلمنا أن التوبة لا يجب عقلاً قبولها، فإن قيل القوم : إنما ندموا على أفعالهم لا لوجه قبحها بل لترتب العقاب عليها، فلا جرم ما كانت التوبة صحيحة ؟
قلنا : القوم لما علموا أن الندم على القبيح لا بد وأن يكون لوجه قبحه حتى يكون نافعاً وجب أن يكون ندمهم واقعاً على هذا الوجه، فحينئذ يكونون آتين بالتوبة الصحيحة مع عدم القبول فصح قولنا.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦١
١٦٤
ثم شرح تعالى ما يقوله هذا الإنسان فقال تعالى :﴿يَقُولُ يَـالَيْتَنِا قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : للآية تأويلات :
أحدهما :﴿لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ﴾ في الدنيا التي كانت حياتي فيها منقطعة، لحياتي هذه التي هي دائمة غير منقطعة، وإنما قال :﴿لِحَيَاتِى﴾ ولم يقل : لهذه الحياة على معنى أن الحياة كأنها ليست إلا الحياة في الدار الآخرة، قال تعالى :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ ﴾ (العنكبوت : ٦٤) أي لهي الحياة.
وثانيها : أنه تعالى قال في حق الكافر :﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ (إبراهيم : ١٧) وقال :﴿فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ﴾ (طه : ٧٤) وقال :﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الاشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ﴾ (الأعلى : ١٣، ١١) فهذه الآية دلت على أن أهل النار في الآخرة كأنه لا حياة لهم، والمعنى فياليتني قدمت عملاً يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء.
وثالثها : أن يكون المعنى : فياليتني قدمت وقت حياتي في الدنيا، كقولك جئته لعشر ليال خلون من رجب.
المسألة الثانية : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم وأنهم ما كانوا محجوبين عن الطاعات مجترئين على المعاصي وجوابه : أن فعلهم كان معلقاً بقصدهم، فقصدهم إن كان معلقاً بقصد آخر لزم التسلسل، وإن كان معلقاً بقصد الله فقد بطل الاعتزال. ثم قال تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٤
١٦٤
وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon