المسألة الثالثة : اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّا هَا﴾ (الشمس : ٧) وقال :﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ (المائدة : ١١٦) وقال :﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة : ١٧) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء، فقال :﴿إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة بِالسُّواءِ﴾ (يوسف : ٥٣) وتارة بكونها لوامة، فقال :﴿بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (القيامة : ٢) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية. واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك :(أنا) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول : أن المشار إليه بقولك :(أنا) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة، والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني : أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك :(أنا) غير متبدل، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة، والمتبدل غير ما هو غير متبدل، فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية، وتقول : قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله :(أنا) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق. والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات، وقال آخرون : بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً.
المسألة الرابعة : من القدماء من زعم أن النفوس أزلية، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله :﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ فإن هذا إنما يقال : لما كان موجوداً قبل هذا البدن.
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد ؟
وفيه وجهان الأول : أنه إنما يوجد عند الموت، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني : أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة، والمعنى : ارجعي إلى ثواب ربك، فادخلي في عبادي، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٧
المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا بقوله :﴿إِلَى رَبِّكِ﴾ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه : إلى حكم ربك، أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب : الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها، أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر، ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود، فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات، أما قوله تعالى :﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا، ويدل على صحة هذا التفسير، ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات، فقال أبو بكر : ما أحسن هذا فقال عليه الصلاة والسلام :"أما إن الملك سيقولها لك". ثم قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٧
١٦٧
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل : في خبيت بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو بلدتك، فحول الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله، وأنت قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَادْخُلِى جَنَّتِى﴾ أي انضمي إلى عبادي المقربين، وهذه حالة شريفة، وذلك لأن الأرواح الشريفة القدسية تكون كالمرايا المصقولة، فإذا انضم بعضها إلى البعض حصلت فيما بينها حالة شبيهة بالحالة الحاصلة عند تقابل المرايا المصقولة من انعكاس الأشعة من بعضها على بعض، فيظهر في كل واحد منها كل ما ظهر في كلها، وبالجملة فيكون ذلك الانضمام سبباً لتكامل تلك السعادات، وتعاظم تلك الدرجات الروحانية، وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ (الواقعة : ٩١، ٩٠} وذلك هو السعادة الروحانية، ثم قال : وذلك هو السعادة الروحانية، ثم قال :﴿وَادْخُلِى جَنَّتِى﴾ وهذا إشارة إلى السعادة الجسمانية، ولما كانت الجنة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء، لا جرم قال :﴿فَادْخُلِى فِى عِبَادِى﴾ فذكر بفاه التعقيب، ولما كانت الجنة الجسمانية لا يحصل الفوز بها إلا بعد قيام القيامة الكبرى، لا جرم قال :﴿وَادْخُلِى جَنَّتِى﴾ فذكره بالواو لا بالفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٧
١٦٧


الصفحة التالية
Icon