فإن قيل : هذه السورة مكية، وقوله :﴿وَأَنتَ حِلُّ ﴾ إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين ؟
قلنا : قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً، كقوله تعالى :﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ (الزمر : ٣٠) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو، وهذا من الله أحسن، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها :﴿وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ﴾ أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله، وتكذيب الرسل وخامسها : أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد، ثم قال :﴿وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ﴾ أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة/ وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ﴾ (الجمعة : ٢) وقال :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ (التوبة : ١٢٨) وقوله :﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه ﴾ (يونس : ١٦) فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكونه من هذا البلد. أما قوله :﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ فاعلم أن هذا معطوف على قوله :﴿لا أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ﴾ وقوله :﴿وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ﴾ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، وللمفسرين فيه وجوه أحدها : الولد آدم وما ولد ذريته، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، وقد قال الله تعالى :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ (الإسراء : ٧٠) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب، وقيل : هو قسم بآدم والصالحين من أولاده، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم. كما قال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٧
﴿إِنْ هُمْ إِلا كَالانْعَـامِا بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا﴾، ﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ وثانيها : أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب، وإنما قال :﴿وَمَا وَلَدَ﴾ ولم يقل ومن ولد، للفائدة الموجودة في قوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ (آل عمران : ٣٦) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وثالثها : الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم. فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب / ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين، وإنما قلنا : إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال :"كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" وهم المؤمنين ورابعها : روي عن ابن عباس أنه قال : الولد الذي يلد، وما ولد الذي لا يلد، فما ههنا يكون للنفي، وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد، والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها : يعني كل والد ومولود، وهذا مناسب، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام.
وأما قوله تعالى :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الكبد وجوه أحدها : قال صاحب "الكشاف" : إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده، وقال آخرون : الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد، ثم اشتقت منه الشدة. وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ، ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني : أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث : أن الكبد شدة الخلق والقوة، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط، وأن يكون المراد كل ذلك.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦٧
أما الأول : فقوله :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ﴾ أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة/ تارة في بطن الأم، ثم زمان الإرضاع، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش، ثم بعد ذلك الموت.


الصفحة التالية
Icon