جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٠
١٧٠
والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل، وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية، ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الكتاب، قال الفراء : في المصادر فكها يفكها فكاكاً بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها، ويقال : كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد، ثم سمي إطلاق الأسير فكاكاً، قال الأخطل :
أبنى كليب إن عمى اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلال
المسألة الثانية : فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق، وقد يكون بأن يعطي / مكاتباً ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه، روى البراء بن عازب، قال :"جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال : عتق النسمة وفك الرقبة قال : يا رسول الله أوليسا واحداً ؟
قال : لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة، أن تعين في ثمنها" وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى، ويتخلص بها من النار.
المسألة الثالثة : قرىء :(فك رقبة) أو إطعام، والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرىء :(فك رقبة أو أطعم) على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله :﴿وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ اعتراض، قال الفراء : وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله :﴿ثُمَّ كَانَ﴾ (البلد : ١٦) لأن فك وأطعم فعل، وقوله : كان فعل، وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلاً، أما لو قيل : ثم إن كان كان ذلك مناسباً لقوله :﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ بالرفع لأنه يكون عطفاً للاسم على الاسم.
المسألة الرابعة : عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات، وعند صاحبية الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبي حنيفة : لتقدم العتق على الصدقة فيها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٠
١٧١
فيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : سغب سغباً إذا جاع فهو ساغب وسغبان، قال صاحب "الكشاف" : المسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة. قال الواحدي : المتربة مصدر من قولهم ترب يترب ترباً ومتربة مثل مسغبة إذا افتقر حتى لصق بالتراب.
المسألة الثانية : حاصل القول في تفسير :﴿يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ﴾ ما قاله الحسن : وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام، قال أبو علي : ومعناه ما يقول النحويون في قولهم : ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم.
واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر، وهو كقوله :﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا ﴾ (البقرة : ١٧٧) وقال :﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا﴾ (الإنسان : ٨) وقرأ الحسن :(ذا مسغبة) نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧١
١٧١
قال الزجاج : ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد / قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر، قال مقاتل : يعني يتيماً بينه وبينه قرابة، فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة، فاطعامه أفضل، وقيل : يدخل فيه القرب بالجوار، كما يدخل فيه القرب بالنسب. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧١
١٧١
أي مسكيناً قد لصق بالتراب من فقره وضره، فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه، روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال : هذا الذي قال الله تعالى (فيه) :﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً، لأنه لو كان لفظ المسكين دليلاً على أنه لا يملك شيئاً ألبتة، لكان تقييده بقوله :﴿ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ تكريراً وهو غير جائز.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧١
١٧٣
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ أي كان مقتحم العقبة من الذين آمنوا، فإنه إن لم يكن منهم لم ينتفع بشيء من هذه الطاعات، ولا مقتحماً للعقبة فإن قيل : لما كان الإيمان شرطاً للانتفاع بهذه الطاعات وجب كونه مقدماً عليها، فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ؟
والجواب : من وجوه أحدها : أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود، كقوله :
إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده


الصفحة التالية
Icon