السؤال الأول : أن الذي ذكره صاحب "الكشاف" من أن ﴿مَآ﴾ ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ عليه يوجب فساد النظم حق، والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسماً بخالق السماء، لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس، فهو إشكال جيد، والذي يخطر ببالي في الجواب عنه : أن أعظم المحسوسات هو الشمس، فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها، ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات، ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس، والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس، بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدىء لها، فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك / جلال الله وعظمته على ما يليق به، والحس لا ينازعه فيه. فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية، وبيداء كبرياء الصمدية، فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ ؟
الجواب : أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين. مع أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه، وما هو أصغر منه، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين، لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته، فقوله :﴿وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات.
السؤال الثالث : لم قال :﴿وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ ولم يقل : ومن بناها ؟
الجواب : من وجهين الأول : أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية، كأنه قيل : والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها والثاني : أن ما تستعمل في موضع من كقوله :﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ (النساء : ٢٢) والاعتماد على الأول.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٧
السؤال الرابع : لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس ؟
والجواب : لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب، والبسيط قسمان : العلوية وإليه الإشارة بقوله :﴿وَالسَّمَآءِ﴾ والسفلية وإليه الإشارة بقوله :﴿وَالارْضِ﴾ (الشمس : ٦) والمركب هو أقسام، وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا﴾ (الشمس : ٧). أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٧
١٧٨
ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما أخر هذا عن قوله :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ لقوله :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ (النازعات : ٣٠).
المسألة الثانية : قال الليث : الطحو كالدحوا وهو البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، والمعنى وسعها. قال عطاء والكلبي : بسطها على الماء.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٨
١٧٨
أما قوله تعالى :﴿وَنَفْسٍ وَمَا﴾ إن حملنا النفس على الجسد، فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح، وإن حملناها على القوة المدبرة، فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة / كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة، على ما يشهد به علم النفس فإن قيل : لم نكرت النفس ؟
قلنا : فيه وجهان أحدهما : أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك لأن كل كثرة، فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس، فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان، والإنسان أنواع وأصناف ورائيسها النبي. والأنبياء كانوا كثيرين، فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق، فقوله :﴿وَنَفْسٍ﴾ إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني : أن يريد كل نفس، ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله :﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات :﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته، والخواص اللازمة لذلك الفصل، فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض، فضلاً عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٨
١٧٩


الصفحة التالية
Icon