المسألة الثالثة : في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه : وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام، على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ (الرعد : ٢٤، ٢٣) وقوله :﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ﴾ (الزمر : ٧٣) وقوله :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد : ٢٤) وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل، قال الله تعالى :﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ﴾ (البقرة : ٤٥) وقال :﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (النسار : ١٤٢) وقال :﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ ﴾ (التوبة : ٣٨) فكان التيسير هو التنشيط.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٨٦
المسألة الرابعة : استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان، فقالوا : إن قوله تعالى :﴿فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى ﴾ يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق، وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية، وقوله :﴿فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى ﴾ يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان، وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة، وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك، ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان، فحال المرجوحية أولى بالامتناع، وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض. أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه أحدها : أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور، قال تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) وقال :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الإنشقاق : ٢٤) فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيراً لليسرى، سمى ترك هذه الألطاف تيسيراً للعسرى وثانيها : أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل. كما قيل في الأصنام :﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ﴾ (إبراهيم : ٣٦) وثالثها : أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب : عن الكل أنه عدول عن الظاهر، وذلك غير جائز، لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع، ثم / إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار، قلنا : أفلا نتكل ؟
قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله، كما قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جواباً عن سؤالهم، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله، وهذا يدل على قولنا : أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير والله أعلم.
المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله :﴿فَسَنُيَسِّرُه ﴾ وجوه أحدها : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين، كما في قوله :﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة : ٢١) وثانيها : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصياً، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعاً، فهذا السبب كان التغيير فيه محالاً وثالثها : أن الثواب لما كان أكثره واقعاً في الآخرة، وكان ذلك مما لم يأت وقته، ولا يقف أحد على وقته إلا الله، لا جرم دخله تراخ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر، والله أعلم. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٨٦
١٨٧


الصفحة التالية
Icon