المسألة الأولى : أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه. واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون : إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة : ٥٥) فقوله :﴿الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى ﴾ إشارة إلى ما في الآية من قوله :﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت : أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها : أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق، فإذا كان كذلك، وجب أن يكون المراد هو أبو بكر، فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود، إنما قلنا : إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى :﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَا كُمْ ﴾ (الحجرات : ١٣) والأكرم هو الأفضل، فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل، فإن قيل : الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى، وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم، قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد، ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد، والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن، أما عكسه فغير مفيد، فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو ؟
فقيل : هو الأتقى، وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله، فثبت أن الأتقى المذكور ههنا لا بد وأن يكون أفضل الخلق عند الله، فنقول : لا بد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله، إما أبو بكر أو علي، ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب، فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا : إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى :﴿وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ﴾ وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب، لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه، ويكسوه، ويربيه، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين، إلا أن هذا لا يجزى، لقوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿قُلْ مَآ أَسْاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ﴾ (الفرقان : ٥٧) والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة، إما أبو بكر أو علي، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي، تعين / حملها على أبي بكر رضي الله عنه، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة، وأما الرواية فهي أنه كان بلال (عبداً) لعبد الله بن جدعان، فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول : أحد، أحد، فمر به رسول الله، وقال : ينجيك أحد، أحد. ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله : فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل :﴿وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ﴾ ﴿إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى ﴾ (الليل : ٢٠) وقال ابن الزبير وهو على المنبر : كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال : منع ظهري أريد. فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" في محل :﴿يَتَزَكَّى ﴾ وجهان : إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له، لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها. وإن جعلته حالاً من الضمير في ﴿يُؤْتِى﴾ فمحله النصب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٢
١٩٣
فيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي ﴿وَمَا لاحَدٍ عِندَه ﴾ (الليل : ١٩) نعمة ﴿إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً، وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير : ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، كقوله :﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّه ﴾ (البقرة : ٢٧٢).
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى بين أن هذا :﴿الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى ﴾ (الليل : ١٨، ١٧) لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة، لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله، لأجل أن الله أمره به وحثه عليه.
المسألة الثالثة : المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة ﴿رَبِّهِ الاعْلَى ﴾ وإن ذلك يقضي وجود رب آخر، وقد تقدم الكلام على كل ذلك.
المسألة الرابعة : ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة، فقال : الآية الواردة في حق علي عليه السلام :﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ (الإنسان : ١٠، ٩) والآية الواردة في حق أبي بكر :﴿إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله، وللخوف من يوم القيامة على ما قال :﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب / أو رهبة من عقاب، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل.
المسألة الخامسة : من الناس من قال : ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال، فلا بد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته، ومن الناس من قال : لا حاجة إلى هذا الإضمار، وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله، أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه ﴾ (البقرة : ١٦٥).
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٣
المسألة السادسة : قرأ يحيى بن وثاب :﴿إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ بالرفع على لغة من يقول : ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين، قوله :
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
أما قوله :﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه، وهو كقوله لرسوله صلى الله عليه وسلّم :﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ (الضحى : ٥) وفيه عندي وجه آخر، وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله، ولسوف يرضى الله عنه، وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين على ما قال :﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (الفجر : ٢٨) والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٣
١٩٤