﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾. ورابعها : أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه، ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ فأمنه من العذاب في العاجل، ووعد له الشفاعة في الآجل وخامسها : معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلاً، فسمى العصمة وضعاً مجازاً، فمن ذلك ما روى أنه حضر وليمة / فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد وسادسها : الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام، حين أخذته الرعدة، وكاد يرمي نفسه من الجبل، ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه وسابعها : الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة، ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه، و(هو) يقول :"اللهم اهد قومي" وثامنها : لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة، فلقد كان فراقهما عليه وزراً عظيماً، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة فارتفع له الذكر، فلذلك قال :﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ وتاسعها : أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة، وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم، ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء، لأنه عليه السلام كانيرى أن نعم الله عليه لا تنقطع، وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه، فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه، فحيئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال، فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة، والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة، فإنه يثقل ذلك عليه جداً، بحيث يميته الحياة، فإذا كلفه المنعم بنوع خدمه سهل ذلك عليه وطاب قلبه.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٠٩
٢١٠
ثم قال تعالى :﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾.
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض والسموات، اسمه مكتوب على العرش، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وانتشار ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل، وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره :﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُه ا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾، ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ و﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ ويناديه باسم الرسول والنبي، حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى، وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى :﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا﴾ كأنه تعالى يقول : أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري، وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ لا تأنف السلاطين من أتباعك، بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك / بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك، ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى يوم القيامة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١٠
قال تعالى :﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالفقر، ويقولون : إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيرًا عندهم، فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة، وقال :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر، والدليل عليه دخول الفاء في قوله :﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة، فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل.


الصفحة التالية
Icon