كأني بالتقصير أستوجب الفضلا وثانيها : إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً. أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم وثالثها : أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها : يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكيف الشاق ثم لا أنصرك.
المسألة الثالثة : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه :﴿خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ وثانياً بأنه علقة وهي بالقلم، ولا مناسبة في الظاهر بين لأمرين، لكن التحقيق أن أول حوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالماً بحقائق الأشياء، وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول : انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة، ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات / الإنسانية، كأنه تعالى يقول : الإيجاد والإحياء والإفدار والرزق كرم وربوبية، أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢١
المسألة الرابعة : قوله :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة، وقوله :﴿الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة، وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية.
المسألة الخامسة : في قوله :﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ وجهان أحدهما : أن المراد من القلم الكتابة التي تعرف بها الأمور الغائبة، وجعل القلم كناية عنها والثاني : أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب، إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة، يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام، فقال : ريح لا يبقى، قال : فما قيده/ قال : الكتابة، فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك، بركوعه تسجد الأنام، وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام، نظيره قول زكريا :﴿إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا﴾ أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والفرب، فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منوراً، كما أنه جعلك بالسواد مبصراً، فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين، ولا تقل القلم نائب اللسان، فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم، التراب طهور، ولو إلى عشر حجج، والقلم بدل (عن اللسان) ولو (بعث) إلى المشرق والمغرب.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢١
أما قوله تعالى :﴿عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك ولم يذكر واو النسق، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحداً ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم مالم يعلمه، فيكون قوله :﴿عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ بياناً لقوله :﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢٢
قال تعالى :﴿كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon