المسألة الثالثة : هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا، وهذا أيضاً على وجوه أحدها : ما روى أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجداً في آخرها ففعل، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً، فقيل له مالك ؟
قال : إن بيني وبينه فخلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني : أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن ﴿عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ قال عليه السلام : لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش، فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله، فأجلسه عليه السلام، ثم قال : من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له، وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر/ جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي فقال : ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى. فإذا أبو جهل، مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا معنى قوله :﴿سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال :"فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال ﴿ءَامَنتُ﴾ وهو قد زاد عتواً" ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه : أحدها : أنه كلب والكلب يجر والثاني : لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث : لتحقيق الوعيد المذكور بقوله :﴿لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ﴾ فتجر تلك الرأس على مقدمها، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن، فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً، الخاطىء معنى قوله :﴿لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٣١
المسألة الرابعة : الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها، وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه.
المسألة الخامسة : أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول : الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي، وقيل : كذبه أنه قال : أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعال قال الله تعالى :﴿لا يَأْكُلُه ا إِلا الْخَـاطِـاُونَ﴾ والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى :﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.
المسألة السادسة :﴿نَاصِيَةٍ﴾ بدل من الناصية، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة.
المسألة السابعة : قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية، وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات، قال : يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى :﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon