القول الثاني : أن المراد من ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال : المراد من قوله :/ ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفاً مطهرة وهو كقوله :﴿يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ وكقوله :﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾.
القول الثالث : وهو قتادة وابن زيد :﴿الْبَيِّنَةُ﴾ هي القرآن ونظيره قوله :﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى ﴾ ثم قوله بعد ذلك :﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير : وتلك البينة وحي :﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾.
أما قوله تعالى :﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب، وفي : وجوه : أحدها :﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة ﴾ عن الباطل وهي كقوله :﴿لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه ﴾ وقوله :﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة ﴾، وثانيها : مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء وثالثها : أن يقال : مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون، كقوله تعالى :﴿فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾.
واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتاً للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله :﴿كُتُبٌ﴾ فيه قولان :﴿أَحَدُهُمَآ﴾ المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف والثاني : قال صاحب النظم : الكتب قد يكون بمعنى الحكم :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ﴾ ومنه حديث العسيف :"لأقضين بينكما بكتاب الله" أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله :﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولانالأول : قال الزجاج : مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت، وهو كقولهم : قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام الثاني : أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة، من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه، ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم، فإن قيل : كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أمياً ؟
قلنا : إذا تلا مثلاً المسطور في تلك الصحف كان تالياً ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
وأما قوله تعالى :﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ ففيه مسائل.
المسألة الأولى : في هذه الآية سؤال، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط، فما السبب فيه ؟
وجوابه : من وجوه أحدها : أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية وثانيها : أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
المسألة الثانية : قال الجبائي : هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا : إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب : أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل، أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة.
المسألة الثالثة : قالوا : هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال :﴿إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، ثم قال :﴿أُمُّ الْكِتَـابِ﴾ أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم.
المسألة الرابعة : المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل :﴿إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ فهي عادة قديمة لهم.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
٢٥٣
أما قوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَا وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon