المسألة الخامسة : العبادة هي التذلل، ومنه طريق معبد، أي مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسماً لكل طاعة الله، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحداً في ذاته وصفاته الذاتية، والقعلية، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم، ثم نقول : لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما : غاية التعظيم، ولذلك قلنا : إن صلاة الصبي، ليست بعبادة، لأنه لا يعرف عظمة الله، فلا يكون فعله في غاية التعظيم والثاني : أن يكون مأموراً به، ففعل اليهودي ليس بعبادة، وإن تضمن نهاية التعظيم، لأنه غير مأمور به، والنكتة الوعظية فيه، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم ؟
المسألة السادسة : الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصاً لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، والنكت والوعظية فيه من وجوه أحدها : كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك، بل بذلت لك البعض، فأطلب منك البعض نصفاً من العشرين، وشاة من الأربعين، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك، فلا ترد بطاعتك سواي، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلاً من أن تستثنيه لغيرك، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص، وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان وثانيها : كأنه تعالى قال : يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة، فإذاً لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن، فكأنه تعالى بفضله قال : الملك لا يخدم الملك لكن (لكي) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ فاجعل أنت أيضاً جميع ما تفعله لأجلي :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٣
واعلم أن قوله :﴿مُخْلِصِينَ﴾ نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص منابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل لوجهه مخلصاً لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة عن النار مطلوباً وإن كان لا بد من ذلك، وفي التوراة : ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل. وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك، وإن زدت في الخشوع، لأن الناس يرونه لم يجز، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة / أخرى، فكيف ولو خلطت بها محظوراً مثل أن تتقدم على إمامك، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص ؟
وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله :﴿مُخْلِصِينَ﴾ قال بعضهم : مقرين له بالعبادة، وقال آخرون : قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة، وقال الزجاج : أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾.
أما قوله تعالى :﴿حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَ ﴾ ففيه أقوال :


الصفحة التالية
Icon