وثانيها : إذا وقعت الفتنة في البلدة، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتاباً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله :﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.
وثالثها : أنه قال :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وفيه بشارة عظيمة، كأنه تعالى يقول : أنا الذي ربيتك أولاً حين كنت معدوماً صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقاً أعطيتك هذه الأشياء، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئاً وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها، كلا إن هذا مما لا يكون.
المسألة الخامسة : قوله :﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه قابل الجمع بالجمع، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما داراً على حدة، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين، ودليل القول الأول :﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعاً، ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات، كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن، لأنه قال :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ ثم قال :﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ فذكر أربعاً للواحد، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان إثنان دون الإثنين، فاستحق جنتين دون الجنتين، فحصلت له أربع جنات، لسكبه البكاء من أربعة أجفان، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه ﴾ وفيه إشارة إلى أنه لا بد من / دوام الخوف، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥
المسألة السادسة : قوله :﴿عَدْنٍ﴾ يفيد الإقامة :﴿لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ ﴿وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ ﴿لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا﴾ يقال : عدن بالمكان أقام، وروى أن جنات عدن وسط الجنة، وقيل : عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة، قال بعضهم : إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال : إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع. مثل حركة الجن، مع أنها دار إقامة وعدن، وإما من الجنون فهو أن الجنة، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون، لولا أن الله بفضله يثبته، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار، أو من الجنين، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر ﴿لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا﴾.
المسألة السابعة : قوله :﴿تَجْرِى﴾ إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري، يزيد نوراً في البصر بل كأنه تعالى قال : طاعتك كانت جارية ما دمت حياً على ما قال :﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد، ثم قال : من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص، وذلك لأن التنغيص في البستان، أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم، وإما بسبب الغرق والكثرة، فذكر من تحتها، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء، فلا تسمى الساقية نهراً، بل العظيم هو الذي يسمى نهراً بدليل قوله :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِه ا وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ﴾ فعطف ذلك على البحر.
المسألة الثامنة : اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولاً والرضا ثانياً، وروى أنه عليه السلام قال :"إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة.
أما الصفة الأولى : وهي الخلود، فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥
وأما الصفة الثانية : وهي الرضا، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله، ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله :﴿وَرَضُوا عَنْه ﴾ لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث، والمحدث لا يؤثر في الآزلي.
المسألة التاسعة : إنما قال :﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء / لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام، فلو قال : رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة، فقوله :﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة.
المسألة العاشرة : اختلفوا في قوله :﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ فقال بعضهم : معناه رضي أعمالهم، وقال بعضهم : المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم، قال : لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله، وهذا هو الأقرب، وأما قوله :﴿وَرَضُوا عَنْه ﴾ فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب.
أما قوله تعالى :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ ولعل الخشية أشد من الخوف، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقروناً بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال :﴿هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ والكلام في الخوف والخشية مشهور.
المسألة الثانية : هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلاً على فضل العلم والعلماء، وذلك لأنه تعالى قال :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية، وهذه الآية وهي قوله :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه ﴾ تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥
المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمناً بأن يعلم أنه من أهل الجنة، وجعل هذع الآية دالة عليه. وهذا المذهب غير قوي، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام :"أعرفكم بالله أخوفكم من الله، وأنا أخوفكم منه" والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥
٢٥٥


الصفحة التالية
Icon