المسألة الأولى : القول في :﴿بُعْثِرَ﴾ مضى في قوله تعالى :﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ وذكرنا أن معنى :﴿بُعْثِرَتْ﴾ بعث وأثير وأخرج، وقرىء بحثر.
المسألة الثانية : لقائل أن يسأل لم قال :﴿بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ﴾ ولم يقل : بعثر من في القبور ؟
ثم إنه لما قال : ما في القبور، فلم قال :﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ﴾ ولم يقل : إن ربها بها يومئذ لخبيير ؟
الجواب عن السؤال الأول : هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو يقال : إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٥
٢٦٦
ثم قال تعالى :﴿وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ﴾ قال أبو عبيدة، أي ميز ما في الصدور، وقال الليث : الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه، والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد :
وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه
إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها : معنى حصل جمع في الصحف، أي أظهرت محصلاً مجموعاً وثانيها : أنه لا بد من التمييز بين الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحظور، فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل : المحصل وثالثها : أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره، أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتبتهك الأستار، ويظهر ما في البواطن، كما قال :﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآا ِرُ﴾.
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال : إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه، فتبني المقابرة وتشتري / التابوت، وتفصل الكفن، وتغزل العجوز الكفن، فيقال : هذا كله للديدان، فأين حظ الرحمن بل المرأة إذا كانت حاملاً فإنها تعد للطفل ثياباً، فإذا قلت لها : لا طفل لك فما هذا الاستعداد ؟
فتقول : أليس يبعثر ما في بطني ؟
فيقول الرب لك : ألا يبعثر ما في بطن الأرض، فأين الاستعداد، وقرىء وحصل بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٦
٢٦٧
ثم قال :﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَا ِذٍ لَّخَبِيرُ ﴾ اعلم أن فيه سؤالات :
الأول : أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة، وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على الله تعالى محال : من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول : إن من لم يكن عالماً، فإنه يصير بسبب الاختبار عالماً، فمن كان لم يزل عالماً أن يكون خبيراً بأحوالك وثانيهما : أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله :﴿فَزَعٍ يَوْمَا ِذٍ﴾ مع كونه عالماً لم يزل أنه وقت الجزاء، وتقريره لمن الملك كأنه يقول : لا حاكم يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو، وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك، فكأنه تعالى يقول : لست كذلك.
السؤال الثاني : لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله :﴿وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ﴾ وأهمل ذكر أعمال الجوارح ؟
الجواب : لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب. فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، ولذلك إنه تعالى جعلها الأصل في الذم، فقال :﴿قَلْبَه ا وَاللَّهُ﴾ والأصل في المدح، فقال :﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
السؤال الثالث : لم قال :﴿وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ﴾ ولم يقل : وحصل ما في القلوب ؟
الجواب : لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته، إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلسها ما يقرب من الصدر، ولذلك قال :﴿يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ﴾ وقال :﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَامِ﴾ فجعل الصدر موضعاً للإسلام.
السؤال الرابع : الضمير في قوله :﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ﴾ عائد إلى الإنسان وهو واحد والجواب : الإنسان في معنى الجمع كقوله تعالى :﴿إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ ثم قال :﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ولولا أنه للجمع وإلا لما صح ذلك. واعلم أنه بقي من مباحث هذه الآية مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تعدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات الزمانيات، لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم فيكون منكره كافراً.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الثانية : نقل أن الحجاج سبق على لسانه أن بالنصب، فأسقط اللام من قوله :﴿لَّخَبِيرُ ﴾ حتى لا يكون الكلام لحناً، وهذا يذكر في تقرير فصاحته، فزعم بعض المشايخ أن هذا كفر لأنه قصد لتغيير المنزل. ونقل عن أبي السماءل أنه قرأ على هذا الوجه، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٧
٢٦٨


الصفحة التالية
Icon