واعلم أنه تعالى وصف ذلك اليوم بأمرين الأول : كون الناس فيه :﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ قال الزجاج : الفراش هو الحيوان الذي يتهافت في النار، وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره، ثم إنه / تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفي آية أخرى بالجراد المنتشر. أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى، يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا، واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة، والمبثوث المفرق، يقال : بثه إذا فرقه. وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة. قال الفراء : كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، وبالفراش المبثوث، لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش، ويأكد ما ذكرنا بقوله تعالى :﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ وقوله :﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وقوله في قصة يأجوج ومأجوج :﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَا ِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ ﴾ فإن قيل : الجراد بالنسبة إلى الفراش كبار، فكيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً ؟
قلنا : شبه الواحد بالصغير والكبير لكن في وصفين. أما التشبيه بالفراش فبذهاب كل واحدة إلى غير جهة الأخرى. وأما بالجراد فبالكثرة والتتابع، ويحتمل أن يقال : إنها تكون كباراً أولاً كالجراد، ثم تصير صغاراً كالفراش بسبب احتراقهم بحر الشمس، وذكروا في التشبيه بالفراش وجوهاً أخرى أحدها : ما روى أنه عليه السلام قال :"الناس عالم ومتعلم، وسائر الناس همج رعاع" فجعلهم الله في الأخرى كذلك :﴿جَزَآءً وِفَاقًا﴾ وثانيها : أنه تعالى إنما أدخل حرف التشبيه، فقال :﴿كَالْفَرَاشِ﴾ لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش، لأن الفراش لا يعذب، وهؤلاء يعذبون، ونظيره :﴿كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
الصفة الثانية : من صفات ذلك اليوم قوله تعالى :﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ العهن الصوف ذو الألوان، وقد مر تحقيقه عند قوله :﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾ والنفش فك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض، وفي قراءة ابن مسعود : كالصوف المنفوش.
واعلم أن الله تعالى أخبر أن الجبال مختلفة الألوان على ما قال :﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ ثم إنه سبحانه يفرق أجزاءها ويزيل التأليف والتركيب عنها فيصبر ذلك مشابهاً للصوف الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشاً، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : إنما ضم بين حال الناس وبين حال الجبال، كأنه تعالى نبه على أن تأثير تلك القرعة في الجبال هو أنها صارت كالعهن المنفوش، فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها فالويل ثم الويل لابن آدم إن لم تتداركه رحمة ربه، ويحتمل أن يكون المراد أن جبال النار تصير كالعهن المنفوش لشدة حمرتها.
المسألة الثانية : قد وصف الله تعالى تغير الأحوال على الجبال من وجوه أولها : أن تصير قطعاً، كما قال :﴿دُكَّتِ الارْضُ دَكًّا﴾، وثانيها : أن تصير كثيباً مهيلاً، كما قال :﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ ثم تصير كالعهن المنفوش/ وهي أجزاء كالذر تدخل / من كوة البيت لا تمسها الأيدي، ثم قال : في الرابع تصير سراباً، كما قال :﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾.
المسألة الثالثة : لم يقل : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش بل قال :﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ لأن التكوير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
٢٦٨
واعلم أنه تعالى لماوصف يوم القيامة قسم الناس فيه إلى قسمين فقال :﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه ﴾ واعلم أن في الموازين قولين : أحدهما : أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وهذا قول الفراء قال : ونظيره يقال : عندي درهم بميزان درهمك ووزن درهمك وداري بميزان دارك ووزن دارك أي بحذائها والثاني : أنه جمع ميزان، قال ابن عباس : الميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة، فإذا رجح فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف وزنه فيدخل النار. وقال الحسن : في الميزان له كفتان ولا يوصف، قال المتكلمون : إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما، خصوصاً وقد نقضيا، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن، أو يجعل النور علامة الحسنات والظلمة علامة السيئات، أو تصور صحيفة الحسنات بالصورة الحسنة وصحيفة السيئات بالصورة القبيحة فيظهر بذلك الثقل والخفة، وتكون الفائدة في ذلك ظهور حال صاحب الحسنات في الجمع العظيم فيزداد سروراً، وظهور حال صاحب السيئات فيكون ذلك كالفضيحة له عند الخلائق.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
٢٦٩
أما قوله تعالى :﴿فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ فالعيشة مصدر بمعنى العيش، كالخيفة بمعنى الخوف، وأما الراضية فقال الزجاج : معناه أي عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وهي كقولهم لابن، وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر، ولهذا قال المفسرون : تفسيرها مرضية على معنى يرضاها صاحبها.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٩
٢٦٩
ثم قال تعالى :﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه ﴾ أي قلت : حسناته فرجحت السيئات على الحسنات قال أبو بكر رضي الله عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً، وقال مقاتل : إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف.
أما قوله تعالى :﴿فَأُمُّه هَاوِيَةٌ﴾ ففيه وجوه : أحدها : أن الهاوية من أسماء النار وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً، والمعنى فمأواه النار، وقيل : للمأوى أم على سبيل التشبيه بالأم التي لا يقع الفزع من الولد إلا إليها وثانيها : فأم رأسه هاوية في النار ذكره الأخفش، والكلبي، وقتادة قال : لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم وثالثها : أنهم إذا دعوا على الرجل بالهلاك قالوا : هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه حزناً وثكلاً، فكأنه قيل :﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه ﴾ فقد هلك.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٩
٢٧١
ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أَدْرَا كَ﴾ قال صاحب الكشاف : هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله :﴿مَوَازِينُه * فَأُمُّه هَاوِيَةٌ﴾ في التفسير الثالث : أو ضمير هاوية : والهاء للسكت فإذا وصل جاز حذفها والاختيار الوقف بالهاء لاتباع المصحف والهاء ثابتة فيه، وذكرنا الكلام في هذه الهاء عند قوله :﴿مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧١
٢٧٢
ثم قال تعالى :﴿نَارٌ حَامِيَةُ ﴾ والمعنى أن سائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حامية، وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها، نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب، ونسأله التوفيق وحسن المآب :﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧٢
٢٧٤


الصفحة التالية
Icon