القول الرابع :﴿أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ فلا تلتفتون إلى الدين، بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة إلا إذا زرتم المقابر، هكذا ينبغي أن تكون حالكم، وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار/ ونظيره قوله تعالى :﴿قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر.
المسألة السادسة : أنه تعالى لم يقل :﴿أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ عن كذا وإنما لم يذكره، لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع، أي : ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر، أو نقول : إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى : ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت، وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر، فنسيتم القبر حتى زرتموه.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٧
أما قوله تعالى :﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول، فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهممه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد، وأما اتصاله بما بعده، فعلى معنى القسم أي حقاً سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائباً، والكافر مسلماً، والحريص زاهداً، ومنه قول الحسن : لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، وتقريره :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ إلى أن قال :﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ﴾ وهذا يمنعك عن التكاثر، وذكروا في التكوير وجوهاً أحدها : أنه للتأكيد، وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول : للمنصوح أقول لك، ثم أقول لك لا تفعل وثانيها : أن الأول عند الموت حيث يقال له : لا بشرى والثاني في سؤال القبر : من ربك ؟
والثالث عند النشور حين ينادي المنادي، فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبداً وحين يقال :﴿وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ﴾ وثالثها : عن الضحاك سوف تعلمون، أيها الكفار :﴿ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أيها المؤمنون، وكان يقرؤها كذلك، فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها : أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها، ثم إنه تعالى يقول : سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة، ازداد علماً، وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحواس، فعند المعاينة يزداد، ثم عند البعث، ثم عند الحساب، ثم عند دخول الجنة والنار، فلذلك وقع التكرير وخامسها : أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة، كما روى عن ذر أنه قال : كنت أشك في عذاب القبر، حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : إن هذه الآية تدل على عذاب القبر، وإنما قال :﴿ثُمَّ﴾ لأن بين العالمين والحياتين موتاً.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٩
ثم قال تعالى :﴿كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اتفقوا على أن جواب لو محذوف، وأنه ليس قوله :﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما : أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات، وإثباته نفي، فلو كان قوله :﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ جواباً للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية، وذلك باطل، فإن هذه الرؤية واقعة قطعاً، فإن قيل : المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا : ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني : أن قوله :﴿ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ إخبار عن أمر سيقع قطعاً، فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم، واعلم أن ترك الجواب / في مثل هذا المكان أحسن، يقول الرجل للرجل : لو فعلت هذا أي لكان كذا، قال الله تعالى :﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يجيء له جواب وقال :﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في جواب لو وجوهاً أحدها : قال الأخفش :﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ ما ألهاكم التكاثر وثانيها : قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها : أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم، وكأنه قال :﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلال وجهلة، وأما قوله :﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفاً بثم تغليظاً للتهديد وزيادة في التهويل.


الصفحة التالية
Icon