المسألة الثالثة : التكرير في قوله :﴿لايلَـافِ قُرَيْشٍ * إِالَـافِهِمْ﴾ هو أنه أطلق الإيلاف أولاً ثم جعل المقيد بدلاً لذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه، والأقرب أن يكون قوله :﴿لايلَـافِ قُرَيْشٍ﴾ عاماً بجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم، فيدخل فيه مقامهم / وسيرهم وجميع أحوالهم، ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله :﴿وَجِبْرِيلُ﴾ وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة، تقول العرب : ألفت كذا أي لزمته، والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر، وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه ءذا أحب المرء شيئاً لزمه، ومنه :﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ كما أن الإلجاء ضربان أحدهما : لدفع الضرر كالهرب من السبع والثاني : لطلب النفع العظيم، كمن يجد مالاً عظيماً ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ، وكذا الدواعي التي تكون دون الالجاء، مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع، وهو المراد في قوله :﴿إِالَـافِهِمْ﴾.
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة، قال عليه الصلاة والسلام :"إنا بني النضر بن كنانة لأنفقوا أمناً ولا ننتفي من أبينا" وذكروا في سبب هذه التسمية وجوهاً أحدها : أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس : بم سميت قريش ؟
قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، تعلو ولا تعلى، وأنشد :
وقريش هي التي تكسن البحـ
ـر بها سميت قريش قريشاً والتصغير للتعظيم، ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة، فإن الأئمة من قريش وثانيها : أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد وثالثها : قال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً، فسموا قريشاً لأن التقرش هو التجمع، يقال : تقرش القوم إذا اجتمعوا، ولذلك سمي قصي مجمعاً، قال الشاعر :
أبو كم قصي كان يدعى مجمعاً
به جمع الله القبائل من فهر ورابعها : أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشاً، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة :
أيها الشامت المقرش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠١
قوله تعالى :﴿رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير، وفي المراد من هذه الرحلة قولان : الأول : وهو المشهور، قال المفسرون : كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم، وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشاً إذا أصاب واحداً منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا، / إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، وكان سيد قومه، وكان له ابن يقال له : أسد، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياماً، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيباً في قريش، فقال : إنكم أجدبتم جدباً تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا : نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، قال الشاعر فيهم :
الخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضاً لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله :﴿وَقَطَّعْنَـاهُمْ فِي الارْضِ أُمَمًا ﴾ واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة، ومنه قوله تعالى :﴿وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني : أن المراد، رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفاً وموسم منافع مكة يكون بهما، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
المسألة الثانية : نصب الرحل بلإيلافهم مفعولاً به، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس كقوله : كلوا في بعض بطنكم، وقيل : معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وقرىء رحلة بضم الراء وهي الجهة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠٢