﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ أي الخير الكثير في الدنيا والدين، فيكون ذلك وعداً من الله إياه بالنصرة والحفظ، وهو كقوله :﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ا وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ } وقوله : وقوله :﴿إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ ومن كان الله تعالى ضامناً لحفظه، فإنه لا يخشى أحداً وثانيها : أنه تعالى لما قال :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة، والخلف في كلام الله تعالى محال، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه، ولا يقهرونه، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها : أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده، وقالوا : إن كنت تفعل هذا طلباً للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس، وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا، وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيساً على أنفسنا، فقال الله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ أي لما أعطاك خالق السموات والأرض خيرات الدنيا والآخرة، فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها : أن قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة، فهذا يقوم مقام قوله :﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى/ بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس، فقدم هذه السورة على سورة :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ﴾ حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم، وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري، فانظر كيف أنجزت لك الوعد، وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع، إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجاً، ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن، وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصوراً على الدنيا، أو يكون طالباً للآخرة، أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان، ثم يكون مصيره إلى النار، وهو المراد من سورة تبت، وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات، وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين : منهم من عرف الصانع، ثم توسل بمعرفتع إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى، ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٢٣
ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين، فبدأ بذكر صفات / الله وشرح جلاله، وهو سورة :﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة :﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية، وعند ذلك ختم الكتاب، وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل، فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم.
الفائدة الثانية : في قوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ هي أن كلمة :﴿إِنَّآ﴾ تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم.
أما الأول : فقد دل على أن الإله واحد، فلا يمكن حمله على الجمع، إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون، حين سأل إبراهيم إرسالك، فقال :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ﴾ وقال موسى : رب اجعلني من أمة أحمد. وهو المراد من قوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ﴾ وبشر بك المسيح في قوله :﴿وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ ﴾.
وأما الثاني : وهو أن يكون ذلك محمولاً على التعظيم، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ﴾ والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب، فيالها من نعمة ما أعظمها، وما أجلها، وياله من تشريف ما أعلاه.


الصفحة التالية
Icon