المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها : أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد، والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا، وصناديد قريش في المسجد، فلما دخل قالوا من الذي كنت تتحدث معه ؟
فقال : ذلك الأبتر، وأقول : إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض، مع أن الله تعالى أظهره، فحينئذ يكون ذلك معجزاً، وروى أيضاً أن العاص بن واثل كان يقول : إن محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير القول الثاني : روى ن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشراف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه، يزعم أنه خير منا ؟
فقال : بل أنتم خير منه فنزل :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ ونزل أيضاً :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّـاغُوتِ﴾، والقول الثالث : قال عكرمة وشهر بن حوشب : لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشاً إلى الإسلام، قالوا : بتر محمد أي خالفنا وانقطع / عنا، فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون القول الرابع : نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل : إن أبغضه لأنه أبتر، وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده القول الخامس : نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله : تباً لك كان يقول في غيبته : إنه أبتر والقول السادس : أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط، وإنه هو الذي كان يقول ذلك، واعلمأنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك، ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه.
المسألة الثانية : الشنآن هو البغض. والشانىء هو المبغض، وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال : بترته أبتره بتراً وبتر أي صار أبتر وهو مقطع الذنب، ويقال : الذي لا عقب له أبتر، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له، وكذلك لمن انقطع عنه الخير.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٢
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك البمغض على سبيل الحضر فيه، فإنك إذا قلت : زيدهو العالم يفيد أنه لا عالم غيره، إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام : إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه.
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين، أو على جميع الخيرات أما الأول : فيحتمل وجوهاً أحدها : قال السدي : كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر، فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر فليس له من يقوم مقامه، ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة، فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع، ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة وثانيها : قال الحسن : عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك، فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين، وصارت رايات الإسلام عالية، وأهل الشرق والغرب لعا متواضعة وثالثها : زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين، وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه، وجبريل وصالح المؤمنين، وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ورابعها : الأبتر هو الحقير الذليل/ روى أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم، ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلاً حقيراً، فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطاً، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفاً كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى الله عليه وسلّم على أقبح وجه، فلما رجع أخذه باليد اليسرى، لأن اليسرى للاستنجاء، فكان نجساً فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره، فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ هذه الواقعة وخامسها : أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف، قيل :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى، وأما المدح الذي ذكرناه فيك، فإنه باق على وجه الدهر وسادسها : أن رجلاً قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام، وقال : سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية، فقال : لا تؤذيني يرحمك الله، فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ فكان ملك بني أمية كذلك، ثم انقطعوا وصاروا مبتورين.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٢


الصفحة التالية
Icon